في مقالته "خمس صعوبات لدى كتابة الحقيقة" يسجّل برتولت بريخت أن أول تلك الصعوبات هي الجرأة على كتابة الحقيقة. ففي الزمن الذي يكثر فيه الحديث عن الأمور العظيمة، على الكاتب أن يكون جريئاً كي يكتب عن الأمور البسيطة والصغيرة.
ولعل أمر العثور على الحقيقة، أو التعرّف عليها، يحتاج إلى الذكاء الذي يستطيع أن يقول في وقت واحد أن أكثر دول العالم تحضراً، تغرق في أبشع أنواع البربرية. في حين أن آخرين قد يتجاهلون ذلك، ويرددون حقائق أخرى مثل أنّ للكرسي مساحة للجلوس، أو أن المطر يهطل من الأعلى للأسفل. ومثلهم أولئك الرسّامون الذين يغطون جدران السفن بلوحات طبيعية صامتة. إنهم يتابعون قول "حقائقهم" بعيداً عن الأقوياء الذين قد يخيفونهم، ولكن بعيداً أيضاً عن صراخ الضعفاء.
أما الصعوبة الثالثة فهي فن استخدام الحقيقة كسلاح، فلا يمكن الكلام عن الفاشية أو النازية، دون أن يوضح الكاتب أن كلتا النزعتين إنما هي مرحلة في تاريخ الرأسمالية، "ولا يمكن الكفاح ضد الفاشية إلا كأشدّ أشكال الرأسمالية عرياً ووقاحة واضطهاداً وخداعاً". فمثل من يناهض الفاشية دون أن يعادي الرأسمالية، كمثل من يرضى أن يغسل الجزار يديه، مدعياً أنه لم يذبح الخروف، قبل أن يقدّم لهم اللحم. وهناك من يعادي ألمانيا كلها، ويدعو لحرب لا رحمة فيها ضدها، فقط لأن النازية قد ظهرت فيها.
فنتيجة هذه الثرثرة، التي تشبه اليوم ثرثرة قادة أميركا وروسيا، ستؤدي لإفناء بلد كامل، بجميع سكانه. إذ أن القنابل، والغازات السامة، لا تختار المذنبين وحدهم، بل تفتك بالبشر جميعاً. وهنا تأتي الصعوبة الرابعة؛ حيث أن على الكاتب أن يكتب الحقيقة للناس الذين يستطيعون الاعتماد عليها، أي أن عليه أن يعرف لمن يكتب الحقيقة. وعندئذ تأتي الصعوبة الخامسة، الأكثر تعقيداً وهي دهاء قول الحقيقة. وهنا يوضح أن الكثير مما لا يمكن أن يقال عن ألمانيا، يمكن أن يقال عن النمسا. أو يمكن الحديث عن اضطهاد العمال في اليابان، كما فعل لينين، حين أراد أن يحكي عن اضطهادهم في جزيرة سخالين أيام القيصرية.
في حكايته "ثياب الإمبراطور الجديدة" يروي لنا هانز كريستيان أندرسن طريقة أخرى لا تشترط أي صعوبة من صعوبات بريخت. فحين تمكن الحائكان الدجالان من الادعاء أنهما قادران على حياكة ثوب شفاف يمكنه أن يظهر حقيقة الإنسان الذي يرتديه. فتن الإمبراطور بهذه الفكرة، ومنحهما المال والأدوات لحياكة الثوب.
ولكن الحائكين لم يفعلا شيئاً، بل مثّلا دور الحياكة وراء النول، وقدما له، ولحاشيته، أثواباً وهمية لا وجود لها، زاعمين أنها ابتكارهما في عالم "الموضة". وحين يرتدي الإمبراطور الثوب المزيف الوهمي، يعجز وزراؤه وحاشيته، بسبب الخوف والانتهازية وروح الخنوع والاستسلام عن قول الحقيقة، ويميلون إلى الكذب والخداع.
غير أن طفلاً صغيراً يقف بين الحشود التي خرجت لترى ثوب الإمبراطور الجديد، الذي لم يكن ثوباً. هو الذي قال دون أي تردد حين رأى الإمبراطور عارياً من الثياب: لكنه لا يرتدي شيئاً.