على الرغم من تصنيف الفيلم الجديد للممثل الأميركي دنزل واشنطن (1954)، في فئة أفلام الحركة، صالة العرض كانت مليئة بعدد كثير من حاضرين تجاوزت أعمارهم، على نحو تقريبي، الخمسين سنة فما فوق. من غير نسيان فتيات وفتيان كانوا في الحضور. وحده واشنطن، أو لنقل، هو أبرز نجوم هوليوود القادرين على فعل هذا الإجماع على فرادة وتنوع الأعمال التي ينجزها وقدرته على تقمص الحالات التي يفعلها، وهي نقطة كبيرة لصالحه.
هذا على الرغم من كون الحياة التي عاشها بطل "مالكوم إكس" (1992) لم تكن بتلك القساوة التي عاشها أمثاله من أصحاب البشرة السمراء داخل البيئة الأميركية. لقد كان الطفل الذي اشتغل في الحادية عشرة من عُمره في محل تجميل وحلاقة كان ملكاً لوالدته، محاولاً الاعتماد، أولاً، على نفسه. ومن جهة أُخرى، لعل الرغبة في هذا الشغل تحديداً قد أتت بسبب من عقدة الشكل التي كانت تسيطر عليه، لم يكن الصبي دنزل يحب شكل وجهه. لاحقاً سيذهب إلى أكاديمية عسكرية وفي واحد من أحاديثه الصحافية قال: "لقد غيّرت هذه الأكاديمية حياتي، لأني لم أكن سأنجو لو سلكت ذاك الطريق، الأشخاص الذين كنت أخرج معهم قد قضوا ما يقارب الـ 40 عاماً في السجن، لقد كانوا أصدقاء جيدين لكن الشارع فعل ذلك بهم". بعد ذلك سيذهب لدراسة الصحافة وينجح فيها ولو بصعوبة، لكن التمثيل بقي هاجسه الدائم.
اقــرأ أيضاً
لكن من أين أتت هذه القدرة المُبهرة في تقمّص الشخصيات والحالات الإنسانية المتعدّدة، التي يفعلها بطل "Training Day" عام 2001، على الرغم من عدم نشاطه الاجتماعي وانحسار نسبة مشاركته في الحياة اليومية! يُقال بأنه لا يخرج إلا نادراً من بيته ولا يذهب إلى الحفلات، باستثناء حفلات السينما التي يكون اسمه فيها موضوعاً على قوائم الترشيح.
في فيلمه الأحدث "Equalizer 2"، نراه أغلب وقته يُمسك رواية ضخمة، في أوقات فراغه من الشغل وفي جلسته المعتادة في مقهاه المُعتاد ويقرأ. في واحدة من اللقطات، نلحظ رواية " العجوز والبحر" لإرنست هيمنغواي والفتاة الضحية، في الفيلم تحاول أن تسأله عنها. يحاول أن يخبرها بضرورة البحث عن أمل رغم قسوة الأيام. تلك الفتاة الروسية اليافعة يظهر لاحقاً أنها مُستغلة من مافيا روسية تتاجر بالأجساد، وطوال الفيلم يحاول إنارة الطريق أمامها.
من هنا، قد يُمكن التقاط نقطة الحنان التي يفعلها دنزل واشنطن في أفعاله السينمائية الأخيرة. هو ذلك الحنان الذي يُمكن أن يجبره على القتل من أجل فتاة روسية صغيرة كانت تضايقه وهو يقرأ "العجوز والبحر" في مقهاه المُعتاد، وهو من الأساس لا يُحب مضايقة من أحد. ذهابه لمساعدة شاب سمين مُضطهد من رجال شرطة فاسدين، ولا يقدر أن يفعل شيئاً أمام ابتزازهم الدائم وحرقهم لمطعم والدته الوحيد ومصدر رزقها.
باستثناء دوره في "Fences"، وهو أيضاً من إخراجه وقد رُشّح بسببه لجائزة أوسكار أفضل ممثل، باستثناء هذا الدور القاسي المركّب والسوداوي الذي ينتهي بموته، سنجد دنزل مثلاً في "Flight 2" كابتن الطائرة المُدمن على الكحول لكنه يبقى على يقظة تامة خلال شغله، وينجح في إنقاذ عشرات من الركاب بحركة بهلوانية، ولم ينقذه هذا من العقاب والسجن بسبب الشراب. الكحول جريمة لا يمكن الإفلات منها. أما في فيلم "The Taking of Pelham 1 2 3"، فسوف نجد سائق القطار البريء العفوي الذي يسيّر حياته اليومية بهدوء لكنه يدخل في مأزق يجبره على إنقاذ حياة مئات الركاب أيضاً. كما في الجزء الأول من "Equalizer"، يتكفل بممارسة وظيفته التي يراها أساساً لحياته وتمدها بالوقود اللازم كي تستمر، استعادة حق الناس العاديين الذين لا يجدون مُساندة من أحد.
في عمله الأحدث الذي أتى أيضاً من إخراج أنطوان فوكوا، وهو نفسه من قام بإخراج "Training Day"، الدور الذي نال بسببه جائزة أوسكار أفضل ممثل. لكن هنا سنجد روبرت ماكول، المشتغل السابق في العمل المخابراتي، وقد تعب من هذا العمل، فيقوم باختراع قصة موته ليذهب لحياة جديدة باسم مستعار، كأنه اختار سكينته بعد حياة ضاجّة ومرهقة والعمل سائقاً للتاكسي مع إحدى الشركات.
اقــرأ أيضاً
مع هذا سيعود لملاقاة شخصية روسية شابة تحتاج بدورها لمساعدة، فلا يتأخر في فعل ما تحتاج إليه الفتاة. ولو أن وضع المعادلة الروسية الأميركية على طول الخط وانتصار الأميركي بالضرورة، فكرة قد أكل منها الزمن وصارت باهتة من فرط تناولها وإعادة تقليبها، لكن دنزل واشنطن كأنما يمتلك تلك البهارات الخاصة به، التي تجعله يعاود تقديم هذه المعادلة بالصورة التي تخصه.
وفيما تبدو قصة لوحة فنيّة مسروقة يسعى ماكول لاستعادتها مجرد تفصيل، كأنها قصة على الهامش، وإن بدت ظاهرياً محور العمل. وعلى الرغم من نجاحه في استعادتها في نهاية الفيلم، فالهاجس الإنساني الذي يدفعه للتدخل في أزمات ومشاكل الآخرين هو محور الشريط وأساسه. هنا يبدو هذا البطل "السريّ" محمياً من الكتب التي يقرأها من إرنست هيمنغواي وحتى "الزمن المفقود" لمارسيل بروست. إذ تبدو نظرته العميقة حين يختار تدخله في حياة الآخرين، ومنهم لا يعلم أن أحداً قد شارك في صنع حلول لمشاكله دون معرفة منه. ماكول يبدو متكتماً للغاية ولا يقول الذي يفعله. إنه يفعل الخير للآخرين، ومن بعده يرميه في البحر.
من قال إن الكتب لا تُنقذ حياتنا!
هذا على الرغم من كون الحياة التي عاشها بطل "مالكوم إكس" (1992) لم تكن بتلك القساوة التي عاشها أمثاله من أصحاب البشرة السمراء داخل البيئة الأميركية. لقد كان الطفل الذي اشتغل في الحادية عشرة من عُمره في محل تجميل وحلاقة كان ملكاً لوالدته، محاولاً الاعتماد، أولاً، على نفسه. ومن جهة أُخرى، لعل الرغبة في هذا الشغل تحديداً قد أتت بسبب من عقدة الشكل التي كانت تسيطر عليه، لم يكن الصبي دنزل يحب شكل وجهه. لاحقاً سيذهب إلى أكاديمية عسكرية وفي واحد من أحاديثه الصحافية قال: "لقد غيّرت هذه الأكاديمية حياتي، لأني لم أكن سأنجو لو سلكت ذاك الطريق، الأشخاص الذين كنت أخرج معهم قد قضوا ما يقارب الـ 40 عاماً في السجن، لقد كانوا أصدقاء جيدين لكن الشارع فعل ذلك بهم". بعد ذلك سيذهب لدراسة الصحافة وينجح فيها ولو بصعوبة، لكن التمثيل بقي هاجسه الدائم.
لكن من أين أتت هذه القدرة المُبهرة في تقمّص الشخصيات والحالات الإنسانية المتعدّدة، التي يفعلها بطل "Training Day" عام 2001، على الرغم من عدم نشاطه الاجتماعي وانحسار نسبة مشاركته في الحياة اليومية! يُقال بأنه لا يخرج إلا نادراً من بيته ولا يذهب إلى الحفلات، باستثناء حفلات السينما التي يكون اسمه فيها موضوعاً على قوائم الترشيح.
في فيلمه الأحدث "Equalizer 2"، نراه أغلب وقته يُمسك رواية ضخمة، في أوقات فراغه من الشغل وفي جلسته المعتادة في مقهاه المُعتاد ويقرأ. في واحدة من اللقطات، نلحظ رواية " العجوز والبحر" لإرنست هيمنغواي والفتاة الضحية، في الفيلم تحاول أن تسأله عنها. يحاول أن يخبرها بضرورة البحث عن أمل رغم قسوة الأيام. تلك الفتاة الروسية اليافعة يظهر لاحقاً أنها مُستغلة من مافيا روسية تتاجر بالأجساد، وطوال الفيلم يحاول إنارة الطريق أمامها.
من هنا، قد يُمكن التقاط نقطة الحنان التي يفعلها دنزل واشنطن في أفعاله السينمائية الأخيرة. هو ذلك الحنان الذي يُمكن أن يجبره على القتل من أجل فتاة روسية صغيرة كانت تضايقه وهو يقرأ "العجوز والبحر" في مقهاه المُعتاد، وهو من الأساس لا يُحب مضايقة من أحد. ذهابه لمساعدة شاب سمين مُضطهد من رجال شرطة فاسدين، ولا يقدر أن يفعل شيئاً أمام ابتزازهم الدائم وحرقهم لمطعم والدته الوحيد ومصدر رزقها.
باستثناء دوره في "Fences"، وهو أيضاً من إخراجه وقد رُشّح بسببه لجائزة أوسكار أفضل ممثل، باستثناء هذا الدور القاسي المركّب والسوداوي الذي ينتهي بموته، سنجد دنزل مثلاً في "Flight 2" كابتن الطائرة المُدمن على الكحول لكنه يبقى على يقظة تامة خلال شغله، وينجح في إنقاذ عشرات من الركاب بحركة بهلوانية، ولم ينقذه هذا من العقاب والسجن بسبب الشراب. الكحول جريمة لا يمكن الإفلات منها. أما في فيلم "The Taking of Pelham 1 2 3"، فسوف نجد سائق القطار البريء العفوي الذي يسيّر حياته اليومية بهدوء لكنه يدخل في مأزق يجبره على إنقاذ حياة مئات الركاب أيضاً. كما في الجزء الأول من "Equalizer"، يتكفل بممارسة وظيفته التي يراها أساساً لحياته وتمدها بالوقود اللازم كي تستمر، استعادة حق الناس العاديين الذين لا يجدون مُساندة من أحد.
في عمله الأحدث الذي أتى أيضاً من إخراج أنطوان فوكوا، وهو نفسه من قام بإخراج "Training Day"، الدور الذي نال بسببه جائزة أوسكار أفضل ممثل. لكن هنا سنجد روبرت ماكول، المشتغل السابق في العمل المخابراتي، وقد تعب من هذا العمل، فيقوم باختراع قصة موته ليذهب لحياة جديدة باسم مستعار، كأنه اختار سكينته بعد حياة ضاجّة ومرهقة والعمل سائقاً للتاكسي مع إحدى الشركات.
وفيما تبدو قصة لوحة فنيّة مسروقة يسعى ماكول لاستعادتها مجرد تفصيل، كأنها قصة على الهامش، وإن بدت ظاهرياً محور العمل. وعلى الرغم من نجاحه في استعادتها في نهاية الفيلم، فالهاجس الإنساني الذي يدفعه للتدخل في أزمات ومشاكل الآخرين هو محور الشريط وأساسه. هنا يبدو هذا البطل "السريّ" محمياً من الكتب التي يقرأها من إرنست هيمنغواي وحتى "الزمن المفقود" لمارسيل بروست. إذ تبدو نظرته العميقة حين يختار تدخله في حياة الآخرين، ومنهم لا يعلم أن أحداً قد شارك في صنع حلول لمشاكله دون معرفة منه. ماكول يبدو متكتماً للغاية ولا يقول الذي يفعله. إنه يفعل الخير للآخرين، ومن بعده يرميه في البحر.
من قال إن الكتب لا تُنقذ حياتنا!