كنّا نتجوّل بالسيارة في بيروت. في كل مكان وتحت كل المباني أكداس من حطام الزجاج مبعثرة كأنها بقع تلطخ المواضع جميعها كأنما المدينة تنزف، وكأنّ حطام الزجاج هو أيضاً حطام المدينة، كأنه دمها يسيل ويتجمّع ويبقّع المطارح.
كنّا في الزحمة. لقد أتى الناس ليتأمّلوا انهيارهم. كانت هذه نزهة انتحارية تقريباً. زحمة والسيارات تتحرك ببطء شديد وكأنها مثبتة في الطريق. مرّة أخرى تبدو الزحمة وكأنها شلل جماعي. مع ذلك لم يرتفع صوت، كان هناك درجة من إذعان، هو قبل كل شيء إذعان لما جرى وكأنه قدرنا الخاص. ما جرى كان فوق كل إرادة وكل قرار. إنه هجوم من الطبيعة، والسلطة تبدو صغيرة جداً أمامه، لدرجة أنها لا تستحق سوى استصغارنا. كان مستغرباً أنها لا تزال موجودة وتجرؤ على الظهور أمامنا، لقد خرج أركانها لنراهم لكنهم كانوا شبه لا مرئيين، وبالكاد تجرجروا على الشاشات، بدوا أقل من معركة، لكن أين تكون المعركة، في لامكان تقريباً.
كنّا وحيدين وحيدين جداً مع غضبنا الذي يبدو، هو الآخر، محبوساً وموجهاً إلى السماء، التي هي الأخرى محبوسة عنه ولا تهتم باستقباله. كنّا وحدنا مع السماء ومع الطبيعة ومع القدر. وحدنا لدرجة أننا فقدنا الإحساس بأنفسنا ووجودنا. لقد ابتلعتنا تلك الكارثة، حبستنا في دواخلنا. لم نكن شيئاً سوى تلك القوة المحبوسة، لم نكن سوى هذا الاستضعاف الذي يأتينا من كل جهة؛ من أنفسنا أولاً، ولكن أيضاً من المصير ومن الوجود كله.
الانفجار لا يزال يدوي صامتاً طوال ساعات اليوم
كنّا في سفح الأسطورة. الانفجار أطلق علينا تلك اللحظة النووية التي لاحقتنا في الطرقات وفي الساحات، ووصلت حتى إلى منازلنا وإلى مخادعنا وانفجرت فينا حيث وجدتنا، ولا تزال في انفجارها الأخرس مستمرة في عقولنا. إننا الآن لا نزال نحملها فينا، ونتركها تملأنا بالكامل وتستولي، في لحظة متوالية، على الخارج والداخل. إنها الفضاء الذي هو، منذ الآن، يسكننا ويوحّدنا مع الخارج، يجعلنا، في آن، كوناً منفرداً ومطرودين من الكون.
الليلة الثانية في السيارة نفسها نمرّ أمام أكوام ممدودة تحت الجدران وفي الزوايا، خليط من الانفجار ومن فضلات الأحياء بعده، الزجاج مختلط بالنفايات. المدينة هذه المرة لا تنزف فحسب، لكنها أضافت بصاقها إلى دمها. لم يشعر الناس كثيراً بأن النفايات عادت إلى الشوارع، وكأنهم لم يروها تتضخّم تحت بيوتهم. لم تعلُ الصيحة ولم تنتبه التلفزيونات لها. ما زالت ليلة الانفجار هي التي تتسلّط على المخيّلة وعلى الذاكرة. لم يروا النفايات تتجمّع وتكبر أحجامها، وكأنها جاءت من الانفجار، وكأن البيوت لم تلق شبابيكها على الأرض فحسب، ولكنها تقيّأت مطابخها وحجراتها فوقها.
الانفجار لا يزال يدوي صامتاً طوال ساعات اليوم، ولا يزال يتردّد في الأحياء. لا تزال المباني والبيوت تستفرغ أنفسها فيه. كنّا نقترب من المرفأ. علينا أن نلتف حول الشارع لننفذ إلى حيث نغدو أمام مطلّه، الناس تخرج من السيارات أو تأتي على أقدامها لتتوقّف أمام الإهراءات المنتصبة محروقة ومجوّفة ومدماة. هي الآن لا تشبه نفسها، لا تشبه أي شيء في الذاكرة. لقد أتت من هذا الدوي الذي كنّس المكان وعرّاه وصبغه. الأهراء انقشر جلدها عنها وتعرّت وظهرت من بعيد مسلوخة مجوّفة.
الناس يتوقفون بالعشرات وراء الحاجز. لقد جاؤوا بكمّاماتهم المزدوجة. هم أيضاً، إذا نظرت إليهم، مطموسون وبلا وجوه. هكذا تنظر الكورونا إلى الزلزال. إنه عالم لا يشبه نفسه وينطمس بالتدريج. هناك أيضاً الصيف الذي وحده يتنفّس تحت الكمّامات. من المفروض أن يحوي أيضاً الفيروس ومعه سموم النِترات. إنه عالم عدائي تماماً، حولك وأمامك، هناك ليس فقط الفيروس ولكن أيضاً السموم. مع ذلك يأتي الناس من كل ناحية، بعضهم بوجوه مكشوفة ولا مبالية، يتأمّلون في صورتهم القادمة.
هناك أيضاً الشبان المتطوّعون الذين لا يزالون يتراكضون، ومكانسهم معهم، من ناحية إلى أخرى. كان يمكن لهذا أن يعيد لك أملك وربما أرضاك، لكنه لا يفعل، تماماً يمكن أن يكون اللامعنى ساد، الإنسانية هنا شيء للذكرى لكنه في بال مثقوب وليس هناك ما تتذكّره. أنت هنا لا تعرف ما الذي حملك على أن تأتي. خرجت من البيت حيث لم تعد تتحمّل أن تبقى أكثر في ما بعد الانفجار. لكنك الآن بالضبط لا تزال في ما بعد الانفجار، كأنه رماك هنا. تحتفل بنجاتك لكنك لم تنجُ، ليس للانفجار غد، إنه مستمر وساعته مستمرة، وأنت تكافح لينفك عنك، لكنه الآن يحتل الزمن ويحتل الأمكنة ويتواصل أخرس مكتوماً، إنه مع ذلك يحتل سمعك ويحتل عينيك.