دم أزرق ودماء حمراء .. القاتل المجنون والضحية العاقلة

17 ديسمبر 2015
أين مثقفونا من كل هذا؟ (الفيسبوك)
+ الخط -
يقول سيوران حول قفاز الحرير الذي يغلف مخالب توحش الحضارة "عقب القرون الماضية التي مارست التعذيب بلامبالاة يبدو قرننا هذا أكثر حرصا على الإتقان إنه يضيف إلى هذه الممارسة الطهرانية تَشُرُّف وحشيتنا".


في غفلة من أرواحنا اللاهثة خلف بروفايلات لأعلام ورموز وشعارات تم خطف الطفل محمد أبو خضيرة ثم حرقه حيا الآن تمت تبرئة القتلة تحت ذريعة الاختلال العقلي، أجزم أنه لو كان الضحية بالغاً لقيل إرهابي ولو كانت محجبة لقيل تضمر تحت حجابها حزاما ناسفا وإن فارعةً ففي بكلة شعرها قنبلة، ولا غرابة أن تصنف الجريمة وفق دم القتيل، لا وفق أداة القتل ولا جنس الفعل ـــ قتلا، أو مزحة، أو تسلية ــــ ليس الأمر سوى اصطياد غزال في نزهة بأرض لا تحمل لافتة ممنوع الصيد إذ تسوغ نظرية صدام الحضارات لأي مجنون أن تغدو كل الدماء أمام سلاحه ساحة صيد، هي الكولونيالية الجديدة متلفعة بالعولمة المتوحشة لبسط نفوذها فهل نعود لقراءة مأساة الهندي الأحمر أمام الأمريكي الأبيض لننجز خطبتنا ما قبل الأخيرة.

لعل نظرية الدم الأزرق لدى هتلر لم تندثر بل وجدت لها تمظهرا آخر أكثر ترسيخا وأدوات ومناهج وانتشرت إلى الغرب برمته كحكومات وأنظمة في غمرة انشغال شعوبها البريئة بركضها اللاهث في سِفر الهروب من الحرية حسب ما يجزم إرك فروم.

المثل الشعبي "مجنون يحكي وعاقل يسمع" أصبح الآن "مجنون يقتل وعاقل يموت والكلب لا يؤذي زنجيا"، ويلبس القاتل تاج جنون يمرره من قوس الاتهام والعقاب وترمى على القتيل عباءة الإرهاب والتطرف ليكون هدفا للصيد العشوائي، ولا ضير من موت أهداف محيطة ليست في مرمى القتل، فهي حواضن للإرهاب أو كائنات لا يرتقي مقتلها إلى مقتل أرنب في حديقة حيوان، وفي خلط للأوراق لنا أن نتساءل لو كانت الحادثة في فرنسا والفاعل مسلما، هل سيُنظَر لعقله أم لدينه في محكمة الشارع والمجتمع الذي أفرز الأنظمة؟ لقد بتنا نغض الطرف عن دمنا ونعزي فالفعل مدان حقا، لكن أحدا منا لم يقرع جرس انتباه في صمت الآخر أو ضجيجه ليعرف ضحايانا لم نعتبر أنفسنا أهل قتيل لم نرفع له راية ثأرٍ حقٍّ ولم نبن بيت عزاء له ولو بحجم شمعة، ولربما لعدم وجود سلطة تمثل ذوي القتيل أو شعبه لها سطوتها وآلتها الإعلامية لنجعل من احتراق الطفل شعارا أو رمزا، فالمثقفون استمرأوا التصفيق لما يصفق صاحب السطوة وما يكدر خاطره لا في التآزر مع القتيل ولو غرقا، لقد تفاعل البعض مع صورة الطفل إيلان لأن هناك صورة معمَّاة عن القاتل، فلعنوا البحر وبكوا المأساة ولم يسموا القاتل قاتلا، ليس سوى البحر الذي أغرق إيلان آزَرَنا و لفَظَهُ ليكون بصقة بوجه إنسانية ملطخة.

وتم السكوت عن القاتل لأنه كان خادما لحدود إسرائيل المجنونة، كذلك قتلى رابعة لأن الفاعل دجال عالمهم الأعور في أرض الكنانة ، رغم التفاعل الرث وليس الخجول لم نشهر محمد أبو خضيرة الطفل المحترق كصورة تفضح القبح بعيدا عن تأثيرها في الآخر لنحقق على الأقل التزامنا الأخلاقي بمهمتنا واشتغالنا بقوة حجتنا التي تفضي إلى عدم التماهي مع الآخر الذي يحق له القيام بأي حرب استباقية بينما دفع الظلم يصير إرهابا، دم العقلاء من أبناء فلسطين، سوريا، العراق، ومصر دم أحمر لا قيمة له، أمام ذاك الأزرق يغدو كل ما سواه فأر تجارب أو ليس دما فهل نهيئ أنفسنا لأعلام جديدة لدول سيضربها تفجير ما، يقول إميل سيوران عن دوافع الكتابة "لا مصادر للكاتب أفضل من أسباب إحساسه بالعار، الكاتب الذي لا يكتشف في ذاته أسبابا للشعور بالخزي أو يتهرّب من هذه الأسباب ليس أمامه إلا السرقة أو النقد" فأن نكون مع الخائضين كجزء من قطيع يعاب على المثقف الذي ينوء بحمل أمة تتآكل تحت الركام، وتهكّماً على البعض كنت سأرفع علم دولة الموزامبيق لولا خوفي من تفجير يحصل بعد يوم فيها فأحاكم لأني حسب الصورة النمطية مهاجر مسلم وإرهابي محتمل.

وفي محاولة لإيجاد فرق أو تفسير في رفع البعض أعلاما لم أجد أحدا رفع علم نيجيريا بعد عملية "بوكو حرام" والخلاصة أننا مثقفو أو أتباع سلطة عالمية سلعت عقولنا وقلوبنا أيضا، فعلم فرنسا الأحمر والأزرق وبينهما بياض الحياد من منا سيستطيع اعتماده منكسا أو مقلوبا بسبب الهجمات على الرقة أو مدرسة الأطفال بالعراق أم أن دمائنا لا تستحق، فأن تقوم عصابة بعمل ما لا يقارن بما تقوم به دوله كفرنسا الجمهورية التي صدرت قيمها للعالم، ماذا لو فكر بعض المسلمين أن يردوا على حرق بعض الفرنسيين للمصاحف بحرق العلم الفرنسي ضمن إطار حرية التعبير.

انتهت حملة "الرقة تذبح بصمت" والآن بدأت حملة ذبح الرقة على قدمين وساق علنا بطيران التحالف والروس، بينما النظام يعيث قتلا بالأطفال والنساء منذ خمسة أعوام، لم يختلفوا عنه باعتذار أو بتصريح خجول، لكأن قتلانا خسائر حربية أو قتلوا بنيران صديقة؛ كذلك ضحايا حكم العسكر في مصر تدخل في نفس التصنيف مادام الفاعل ينتهك كل شيء ويفرض تسويقه وتصنيفه لمن يكون إرهابيا أو حاضنا وهنا يبدو الأمر مدروسا ومشغولا عليه بآن.

للقتلى العقلاء في ساحة الشرق المستباح بجنون القتل أتساءل هل عليكم أن تضعوا أعلاما زرقاء كعلم الأمم المتحدة التي احتمى بها المدنيون في سيبرنتسا وقتلوا واغتصبت نساؤهم أم تضعوا أعلاما فرنسية على أسطح بيوتكم تلبسونها لأطفالكم علهم يهتمون لموتكم في نشرة الموت الرقمي في المساء، وكمحصلة صارخة البلاد أنبوبة اختبار، فئران تجارب نحن، من ينجو يعيش وفقا لمصطلح البقاء للأصلح واصطفاء الطبيعة المتوحشة التي تنتقي الدم وخَدَمِه وأتباعِه وأجدى بنا أن نكون أكثر قربا من إسراء الطويل وفتيات المخيم ومرابطات الأقصى؛ لتمييز رسالتنا وللشعوب كلمتها وحتميتها التي تصنع التاريخ فأين مثقفونا من كل هذا؟

(سورية)
دلالات
المساهمون