10 مايو 2024
دفاعاً عن الشتيمة
عزام أمين
كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا
لا تقع الشتيمة التي يريد المقال الدفاع عنها في حدود الممارسات اللغوية في أثناء العلاقات البين فردية والحوارات الشخصية، فهذه لا يمكن الحديث عنها خارج إطار الانفعالات النفسيّة والتوتر، وربما العصابية وعدم الثقة بالنفس، أو توجيه الإهانة وازدراء الآخر، وإنما عن الشتيمة والسب فعلا جماعيا واحتجاجيا شعبيا على سُلطة حاكمة.
مع بداية موجة الربيع العربي الأولى، انتشرت في سورية شتائم عديدة موجّهة إلى النظام، من أشهرها التي خصّت روح مؤسس النظام الحالي، حافظ الأسد، وسرعان ما تحوّلت إلى شعار جماهيري وأهازيج شعبية يغنيّها مئات السوريين والسوريات في مظاهراتهم واحتجاجاتهم اليومية، تعبيراً عن رفضهم القهر والخوف، قبل أن تتحوّل ثورتهم، بفعل القتل والإجرام الذي مارسه النظام، إلى حرب طاحنة خرج منها الشعب السوري، بجميع فئاته، خاسراً. وأكثر الذين اعترضوا على هذا الشعار المؤيدون للنظام، وأيضا من يمكن وصفهم بأنهم رماديون، سوريون وعرب آخرون، مبرّرين موقفهم هذا بأن "ثورة تلجأ إلى الشتيمة لا يمكن أن تبني، وليست ثورة"، وكأن هناك ثورة بدون شتيمة! وهم، وبشكل غير مباشر، يريدون تبرير موقفهم المؤيّد أو المتخاذل أكثر من تبرير موقفهم من الشتيمة نفسها.
في موجة الربيع العربي الثانية، تفنّن اللبنانيون وأبدعوا في صيغ الشتم والسبّ منذ بداية انتفاضتهم في 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل، وتحولت تلك الموجّهة خصوصا إلى وزير
الخارجية، جبران باسيل، إلى أهزوجة تتردّد بين المتظاهرات والمتظاهرين. ومرة ثانية، لاقت هذه الظاهرة اعتراضًا واستعلاءً لغويا، بحجّة احترام الآداب والتهذيب، وخصوصا من أنصار التيار الوطني الحر وحزب الله المناهضين للانتفاضة، ومن مثقفين لبنانيين، وعربٍ آخرين، أوقعتهم هذه الانتفاضات العربية المتكرّرة في حالة ارتباك وتنافر معرفي بين موقفهم الداعم أنظمةً استبداديةً وطائفية بحجّة "المقاومة" ومطالب شعبية محقة وشرعية.
ليس أكثر بلاهةً من الطلب من شعوبٍ ثائرة غاضبة، عانت من القهر والاستبداد عقودا، اللباقة والتهذيب والتقيد بالكلام اللائق. كيف يمكنك أن تطلب من السوري، في لحظات الانفجار والإحساس بالتحرّر والحرية، أن يكون لبقًا، وألا يشتم ويلعن روح مؤسس جمهورية الرعب والذل، وهو الذي كان يضطر، أكثر من أربعة عقود، أن يعلن ولاءه، ويطأطئ رأسه بمجرد مروره بجانب صورة المذكور؟ كيف يمكن الطلب من اللبنانيين واللبنانيات التقيد بالآداب الفيكتورية البيضاء، وعدم توجيه الشتائم لرموز نظام أمراء حرب طائفي جاثم على صدورهم منذ عقود، وحوّل لبنان إلى مكبٍّ للنفايات السياسية والبشرية، وأقصى أحلام شبابه وشاباته السفر والهجرة.
فعل الشتيمة معروف في كل الثقافات والمجتمعات، وتختلف مكوّناته اللغوية من لغةٍ إلى أخرى، إلا أنها غالبا ما تربط البذاءة بالتابوهات الدينية والجنسية والسياسية. كلما كانت درجة القمع والكبت عاليةً في أيّ مجتمع ازدادت معها درجة الإحباط، وبالتالي تعدّدت مهارات السب والشتم والنكات البذيئة وتنوعت، وخصوصا التي تتموضع "تحت الزنار". ليس متوقعا أن هناك مجتمعًا تنتشر فيه ظاهرة السب والشتم والنكات السياسية والجنسية بقدر انتشارها في العالم العربي، وخصوصا في الدول التي عانت من أنظمة شمولية أو طائفية، كالعراق وسورية ولبنان، فقد كانت النكتة السياسية والجنسية والبذاءة والشتم فعل مقاومة، وكسرًا للقيود، ومتنفسًا
وتفريغًا للآلام، وأحيانًا سخرية لاذعة من الذل والقهر اليومي.
يرتبط مفهوم الثورة بإرادة التغيير، وبكسر القيود التي تعيق هذا التغيير. لذلك يصرّ الشباب العرب المنتفضون على تسمية حراكهم "ثورة"، فهم يريدون تغييراً شاملاً وخروجًا عن المألوف، فكيف تقع ثورة لا تُحدث هزّة في ثوابت المجتمع الأخلاقية والدينية والسياسية؟ استعبدتنا الأنظمة العربية بإرث أخلاقي، يستحضر كل أشكال التابوهات التي تقدّر قيم الكبت، وتمنح القيمة الأخلاقية العليا للولاء والطاعة والذل. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم الشتائم التي أطلقها المتظاهرون إلا في إطار الثورة وإرادة التخلص من سنوات الخوف الطويلة، والانعدام الكامل للتعبير عن الرأي.
فِعل السب والشتم في سياق الثورات أداة احتجاج على السلطة السياسية ورموزها، ومقابلة عنفها وبذاءتها السياسية بعنف الشتيمة وبذاءتها اللغوية، بعفوية وصدق، بعيدًا عن التكلّف والتنميق والتهذيب المصطنع. هو فعلٌ لتحطيم الطوطمية السياسية. وفي هذا السياق، ومن منظور فكرة قتل الأب الذي تحوّلت صوره وأصنامه إلى طوطم يجمع الكل، ليس مستغربا أن
ينال في سورية ولبنان "الأب القائد" و"بيّ الكل" وغيرهما نصيبا من الشتائم.
في مقالها عن السبّ فعلا احتجاجيا، ترى الباحثة اللغوية، أميرة عكارة، أنه يمكن النظر إلى الشتيمة في السياق الاحتجاجي كأداة تجريح ومقاومة للسلطة السياسية المنتفخة، وهدم محاولاتها لصنع هالاتٍ من التقديس حولها. إنها، أيّ الشتيمة، أداة لخلخلة السلطة ومساءلتها وفضحها وإعادة لترتيب للأولويات في المجال العام.
إذا كانت اللغّة المهذّبة والمنمّقة من أهم أدوات الأنظمة الشمولية لقمع شعوبها والسيطرة عليها، وأهم أدوات بعض الأدباء والشعراء والمثقفين للاستعلاء والنفاق والتذلل وادعاء الطهارة، فإن بذاءة الشتم إحدى أهم الوسائل السلمية لمقاومتها. كما أن للشتيمة، أحيانًا، جمالية وقوة في التعبير عن صدق المعنى، وليس أجمل من نقاش عن الحكّام العرب والأنظمة العربية مع صديق لبناني (زحلاوي) تصدح حنجرته بين كل جملةٍ وأخرى بالقول "هيلا هيلا هيلا هو.."، وأردُّ عليه: "كلّن يعني كلّن".
في موجة الربيع العربي الثانية، تفنّن اللبنانيون وأبدعوا في صيغ الشتم والسبّ منذ بداية انتفاضتهم في 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل، وتحولت تلك الموجّهة خصوصا إلى وزير
ليس أكثر بلاهةً من الطلب من شعوبٍ ثائرة غاضبة، عانت من القهر والاستبداد عقودا، اللباقة والتهذيب والتقيد بالكلام اللائق. كيف يمكنك أن تطلب من السوري، في لحظات الانفجار والإحساس بالتحرّر والحرية، أن يكون لبقًا، وألا يشتم ويلعن روح مؤسس جمهورية الرعب والذل، وهو الذي كان يضطر، أكثر من أربعة عقود، أن يعلن ولاءه، ويطأطئ رأسه بمجرد مروره بجانب صورة المذكور؟ كيف يمكن الطلب من اللبنانيين واللبنانيات التقيد بالآداب الفيكتورية البيضاء، وعدم توجيه الشتائم لرموز نظام أمراء حرب طائفي جاثم على صدورهم منذ عقود، وحوّل لبنان إلى مكبٍّ للنفايات السياسية والبشرية، وأقصى أحلام شبابه وشاباته السفر والهجرة.
فعل الشتيمة معروف في كل الثقافات والمجتمعات، وتختلف مكوّناته اللغوية من لغةٍ إلى أخرى، إلا أنها غالبا ما تربط البذاءة بالتابوهات الدينية والجنسية والسياسية. كلما كانت درجة القمع والكبت عاليةً في أيّ مجتمع ازدادت معها درجة الإحباط، وبالتالي تعدّدت مهارات السب والشتم والنكات البذيئة وتنوعت، وخصوصا التي تتموضع "تحت الزنار". ليس متوقعا أن هناك مجتمعًا تنتشر فيه ظاهرة السب والشتم والنكات السياسية والجنسية بقدر انتشارها في العالم العربي، وخصوصا في الدول التي عانت من أنظمة شمولية أو طائفية، كالعراق وسورية ولبنان، فقد كانت النكتة السياسية والجنسية والبذاءة والشتم فعل مقاومة، وكسرًا للقيود، ومتنفسًا
يرتبط مفهوم الثورة بإرادة التغيير، وبكسر القيود التي تعيق هذا التغيير. لذلك يصرّ الشباب العرب المنتفضون على تسمية حراكهم "ثورة"، فهم يريدون تغييراً شاملاً وخروجًا عن المألوف، فكيف تقع ثورة لا تُحدث هزّة في ثوابت المجتمع الأخلاقية والدينية والسياسية؟ استعبدتنا الأنظمة العربية بإرث أخلاقي، يستحضر كل أشكال التابوهات التي تقدّر قيم الكبت، وتمنح القيمة الأخلاقية العليا للولاء والطاعة والذل. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم الشتائم التي أطلقها المتظاهرون إلا في إطار الثورة وإرادة التخلص من سنوات الخوف الطويلة، والانعدام الكامل للتعبير عن الرأي.
فِعل السب والشتم في سياق الثورات أداة احتجاج على السلطة السياسية ورموزها، ومقابلة عنفها وبذاءتها السياسية بعنف الشتيمة وبذاءتها اللغوية، بعفوية وصدق، بعيدًا عن التكلّف والتنميق والتهذيب المصطنع. هو فعلٌ لتحطيم الطوطمية السياسية. وفي هذا السياق، ومن منظور فكرة قتل الأب الذي تحوّلت صوره وأصنامه إلى طوطم يجمع الكل، ليس مستغربا أن
في مقالها عن السبّ فعلا احتجاجيا، ترى الباحثة اللغوية، أميرة عكارة، أنه يمكن النظر إلى الشتيمة في السياق الاحتجاجي كأداة تجريح ومقاومة للسلطة السياسية المنتفخة، وهدم محاولاتها لصنع هالاتٍ من التقديس حولها. إنها، أيّ الشتيمة، أداة لخلخلة السلطة ومساءلتها وفضحها وإعادة لترتيب للأولويات في المجال العام.
إذا كانت اللغّة المهذّبة والمنمّقة من أهم أدوات الأنظمة الشمولية لقمع شعوبها والسيطرة عليها، وأهم أدوات بعض الأدباء والشعراء والمثقفين للاستعلاء والنفاق والتذلل وادعاء الطهارة، فإن بذاءة الشتم إحدى أهم الوسائل السلمية لمقاومتها. كما أن للشتيمة، أحيانًا، جمالية وقوة في التعبير عن صدق المعنى، وليس أجمل من نقاش عن الحكّام العرب والأنظمة العربية مع صديق لبناني (زحلاوي) تصدح حنجرته بين كل جملةٍ وأخرى بالقول "هيلا هيلا هيلا هو.."، وأردُّ عليه: "كلّن يعني كلّن".
دلالات
عزام أمين
كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا
عزام أمين
مقالات أخرى
05 ابريل 2023
02 مايو 2022
21 مارس 2020