دفاتر فارس يواكيم: عبد الرحمن الشرقاوي... مؤلف "الأرض" والمسرحيات الممنوعة والقصائد الملتهبة
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
عرفت عبد الرحمن الشرقاوي مرتين. في الأولى عرفته قارئاً لرواياته ومشاهداً لبعض مسرحياته ولأفلام سينمائية كان هو فيها كاتب السيناريو والحوار. وفي المرة الثانية عرفته وجهاً لوجه، قدّمني له الأديب يوسف السباعي في مكتبه بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في القاهرة. ومن بعد كنت أحرص على اللقاء به كلّما زرتُ مصر، وكذلك كنت ألتقيه في بيروت كلما جاء إلى لبنان.
كان في أدبه ملتزماً صارماً عنيداً، وكان في حياته عنيفاً في الخصومة والتأييد للأشخاص، كما للآراء والمواقف. وكان في أعماقه مزيجاً من الاشتراكية والدين. ولد في الريف المصري في قرية في الوجه البحري سنة 1920 في طبقة فلاحية متديّنة. بدأ تعليمه في الكُتّاب، ثم انتقل طفلاً إلى القاهرة وتدرّج في التعليم حتى تخرّج من كلية الحقوق (1943). اشتغل محامياً لفترة وجيزة فقط، وبدأ حياته المهنية كاتباً، فنشر في الصحف قصائد وقصصاً قصيرة ومقالات. لاحقاً احترف الصحافة كما الأدب، وتولّى رئاسة تحرير مجلة "روز اليوسف".
في الشعر بدأ عبد الرحمن الشرقاوي بالقصائد العمودية ذات الاهتمام العاطفي مثل: "أرأيتِ؟ ها أنذا كفرسان الزمان الغادرِ/ لا شيء بعدُ سواكِ يشرق في زحام خواطري". ثم تحوّل إلى شعر التفعيلة والقصائد ذات الالتزام السياسي مثل "من أب مصري إلى الرئيس ترومان".
ومن باب الشعر دخل إلى المسرح. المسرحيات التي كتبها صاغها بالشعر، لكن ليس على غرار أحمد شوقي، وسعيد عقل، وعزيز أباظة، الذين سبقوه في كتابة المسرحيات الشعرية، فهو يختلف عنهم في الشكل وفي المضمون. الشعر في مسرحه هو شعر التفعيلة الذي يجعله أكثر حرية في تطويع الحوار، ويخلّصه من قيود الشعر الكلاسيكي، والمواضيع التي عالجها مواضيع ثورية. وقد أخبرني أن أول مسرحية شعرية كتبها كانت بعنوان "الأسير"، وتجري أحداثها في مصر زمن الحروب الصليبية، لكنها لم تعرض، وأنه أعاد صياغتها غير مرة، ثم صرف النظر عنها. ولم يكن استدعاء التاريخ إلا سبيلاً لمناقشة واقع معاصر مشابه، وهو النضال ضد الغزو الأجنبي. كان التاريخُ ثوباً يلبسه الواقع المعاصر وهو على مقاسه. وهذا نهج سلكه عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيات أخرى.
اقــرأ أيضاً
وكانت "مأساة جميلة" أول مسرحية من تأليفه عُرضت في "المسرح القومي" عام 1962 بإخراج حمدي غيث. وهي مسرحية سياسية بامتياز تناولت ثورة الجزائر من أجل الاستقلال، وصوّرت شخصية جميلة بو حيرد التي كانت مواطنة عادية، لكن ثوريتها ونضالها ومعاناتها جعلتها بطلة ظلت في الذاكرة الشعبية. وفي أحد المشاهد تقول جميلة ونفسها مملوءة بالأسى: "لمَ لا تصيح الأرض في وجه المظالمِ والمجازرْ؟/ لمَ لا يزال الليل يسطع بالنجوم على الجزائرْ؟/ عاد الربيع، فما الذي يرجو الربيع؟ / ما زال زهر الأرض يطفو فوق أمواج الدموع/ والشمس تشرق رغم مأساة الحياة ولا تبالي".
وفي مسرحية "وطني عكا" لم يلجأ عبد الرحمن الشرقاوي إلى التاريخ ليعرض موضوعه. أحداثها تجري عام 1968، أي عاماً واحداً بعد النكسة. ولم يفته أن يعرض رأيه السياسي في هزيمة حزيران "نحن انهزمنا قبل يونيو يا بُنيّْ (…) نحن انهزمنا منذ كُبّلت السواعد (…) نحن انهزمنا منذ واجهنا الخصوم بصدورنا/ والشوك يعمل في الظهور/ فلنعتبر من كلّ ذلك حين نضرب من جديد/ فالنصر في التحرير غارٌ لا يضفره عبيد".
وكان عبد الرحمن الشرقاوي قد عبّر عن الرأي ذاته في مسرحية سابقة "الفتى مهران" التي عرضت عام 1966، أي قبل النكسة بعام. لا يمكن أن يتحقق النصر من دون أن ينعم الشعب بالحرية. وفي المسرحية يبعث البطل مهران برسالة إلى السلطان يقول: "قيودٌ قيود كفانا قيوداً/ وخلِّ القيود لأعدائنا/ فكيف نحارب أعداءنا ونحن نجرجر أصفادنا؟/ وكيف سنسمع قرع الطبول، وعزف النفير، وصيحةَ مُستنفِرٍ للجهاد/ وصلصلة القيد ملء الأُذُن؟".
ويواصل مهران طرح الأسئلة على السلطان: "لماذا أرسلت الجيش إلى أرض السند والخطر جاثم بالباب؟". وأذكر أنني حضرت عرض هذه المسرحية في المسرح القومي في القاهرة، وكان ثلاثة من أهل الصعيد يرتدون الجلباب الشعبي ويجلسون في الصف الذي أمامي. صفقوا مع الجمهور لدى سماع العبارة، وفهموا أن أرض السند هي اليمن، وأن الباب هو سيناء، والخطر هو إسرائيل. كذلك فإن الجمهور أدرك أن السلطان هو الريّس عبد الناصر، وأن عُمّاله هم رجال المخابرات، وأن مهران هو عبد الرحمن الشرقاوي نفسه. وفي رسالته إلى السلطان يخبره: "إن عمالك قد طاردوا الصدق من القلب (…) إن المناجل للسنابل ولأعياد الحصاد، لا لهامات البشر (…) اسمع صرخةَ مُحبٍّ هي خير ألف مرّة من رضا كاظم غيظٍ يرهبك". ولم يفطن الرقيب إلى الرمز، فأحداث المسرحية تجري "أيام زمان" في عصر المماليك، ولم يدرك أن التاريخ استُخدِم لإلقاء الضوء على الحاضر. وبعد عرض المسرحية بأشهر أماط محمود أمين العالم اللثام عن الإسقاط في مقالة عنيفة في مجلة "المصور"، فانتبهت الرقابة وأوقفت عرض المسرحية.
اقــرأ أيضاً
أما مسرحية "الحسين ثائراً وشهيداً"، فمنعت تماماً ولم تعرض في المسرح قَطّ، رغم صدور النص في كتاب نشرته الهيئة التابعة للدولة. اعترض الأزهر على ظهور شخصية الحسين، رغم الموافقة على محتوى المسرحية وحواراتها. كانت فرقة المسرح القومي قد أجرت العديد من التدريبات عليها بإخراج كرم مطاوع وبطولة عبد الله غيث. اقترح الشرقاوي أن تضاف شخصية إلى المسرحية، مهمتها أن تعلن "قال الحسين …"، ويلي ذلك أداء عبد الله غيث الذي يردد أقوال الحسين ويعبّر عن أفكاره من دون أن يكون تجسيداً للشخصية. وقوبل ذلك الاقتراح بالرفض أيضاً. وأخبرني الشرقاوي بمرارة وقال: "الإمام المستنير محمد عبده، شيخ الأزهر، أجاز عرض الشخصيات الدينية على المسرح إذا كان ذلك يُظهِر فضائل الدين". وبعد عودتي من القاهرة إلى لبنان توجهت للقاء الإمام موسى الصدر في مدينة صور. عرضت عليه الأمر، فطلب أن يقرأ النص. ومن بعد أبلغني موافقته على السماح بعرض المسرحية في بيروت، شرط الالتزام بالاقتراح "قال الحسين ….". وفي اليوم ذاته أبلغت الشرقاوي النبأ تلفونياً. لكن الحرب الأهلية نشبت في بيروت، ثم اختفى الإمام الصدر، وبعدها توفي عبد الرحمن الشرقاوي ولم تبصر المسرحية النور.
وينطبق الحدث التاريخي على الآني المعاصر في مسرحية "النسر الأحمر"، وهي في الأصل مسرحيتان: "النسر والغربان" و"النسر وقلب الأسد" وقد دمجهما معاً المخرج كرم مطاوع بالاتفاق مع المؤلف. أما النسر، فهو صلاح الدين الأيوبي، وأما الرابط بين الأمس واليوم فهو مواجهة مصر للمصير بلذة الانتصار مقرونة بأعباء الآيام الآتية. كتب الشرقاوي المسرحية في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين 1973 وعرضت بعد سنتين. وفي المسرحية إحالات رمزية على حالات واقعية. شخصية كوكب ترمز إلى مصر، أما عُلَيْش فهو في المسرحية "زلمة أمير المغرب" وفي الرمز هو الرئيس الليبي معمر القذافي الذي شنّ حملة على الرئيس أنور السادات، والمونولوغ الذي كتبه الشرقاوي وأبدعت سهير المرشدي في أدائه هو "الردّ المصري" إذا جاز التعبير: "ماذا تعرف عنّا أنت؟ أعرفت الجوع وأنت تقاسي كي لا تهدر ما قدّست؟ (…) أعرفت الحاجة حين تلحّ لكي تركع وضميرك يأبى هذا العار؟ (…) أعرفت اللوعة إذ لا دمعة تطفئ نيران الأعماق؟ أعرفت الحسرة تشقي النظرة إذ تنزل قارعة الغدر؟ أعرفت العفة تردي اللهفة في أعمق أغوار الصدر؟ أعرفت الغربة تسبي المتعة في وطنك إذ أنت هنا والحلم هناك؟".
حضرت بعض "بروفات" مسرحية "النسر الأحمر" وعرضها الأول، وأجريت حواراً طويلاً مع عبد الرحمن الشرقاوي نشرت بعضه آنذاك في صحيفة "النهار" البيروتية. قال ردّاً على سؤال: "أنا لا أكتب المسرحية إلا بدافع الحاجة إلى التعبير عن رأي، وأعتبر المسرح أفضل مكان يُقال فيه الرأي الخالص وهو أحب وسائل التعبير لديّ". وحين سألته لماذا يكتب مسرحياته باللغة الفصحى، أجاب: "حاولت أن أكتب مسرحية باللغة العامية وبدأت فعلاً، عنوانها "قلوب خالية"، وعندما فرغت من كتابتها اكتشفت أنها رواية وليست مسرحية!".
وهو نشرها رواية، كما نشر "الشوارع الخلفية" التي اقتبست في المسرح وتحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني وإلى فيلم سينمائي من إخراج كمال عطية. لكن تبقى "الأرض" هي الأهمّ والأكثر رواجاً بين روايات الشرقاوي، خصوصاً بعدما تحوّلت إلى فيلم سينمائي يعتبر من أبرز الأفلام المصرية.
ظهر اسم عبد الرحمن الشرقاوي في عناوين سبعة أفلام، خمسة منها بإخراج يوسف شاهين. السادس هو "الشوارع الخلفية"، وهو فيه مؤلف الرواية وكاتب السيناريو والحوار. والسابع هو فيلم "الرسالة" من إخراج مصطفى العقاد. أما مساهمة الشرقاوي في أفلام شاهين، فهى متنوعة. في "الأرض" هو مؤلف الرواية فقط. وفي "فجر يوم جديد" هو كاتب الحوار فقط (السيناريو لسمير نصري)، وبعضها شراكة في السيناريو والحوار كما في "النيل والحياة" (مشاركة مع كاتب سوفييتي) أو شراكة مع مجموعة كما في فيلم "جميلة" (مع يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعلي الزرقاني ووجيه نجيب)، أو في "الناصر صلاح الدين" (مع نجيب محفوظ وعز الدين ذو الفقار ويوسف السباعي ويوسف شاهين). أما في فيلم "الرسالة"، فكان عبد الرحمن الشرقاوي شريكاً في كتابة السيناريو والحوار مع توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار ومحمد علي ماهر والبريطاني هاري كريغ. وقد اختاره المخرج مصطفى العقاد للمشاركة في كتابة سيناريو "الرسالة" لمعرفته بعمق إدراك عبد الرحمن الشرقاوي للتراث الإسلامي. وله في هذا المجال سلسلة من الكتب ذات الأهمية التراثية والفكرية. من هذه الكتب: "محمد رسول الحرية" و"الصدّيق أول الخلفاء" و"علي إمام المتقين" و"الفاروق عمر" و"عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء" و"أئمة الفقه التسعة"، وهو في هذه السلسلة يشبه الأديب عباس محمود العقاد الذي تناول المواضيع ذاتها. لكن منظور الشرقاوي مختلف، فهو عالج المواضيع الدينية والتراثية بوجهة نظر تؤمن بالاشتراكية عندما تنحصر في قضية العدالة الاجتماعية.
في رواياته ومسرحياته وكتبه التراثية، كان عبد الرحمن الشرقاوي دوماً ثنائي الانتماء. هو ابن الأسرة الفلاحية المولود في الريف يعرف تماماً معاناة الفلاحين. هو ابن المدينة والطبقة الوسطى عاش شخصياً همومها وطموحاتها. هو الذي اطلع بعمق على الأدب العالمي والفكر السياسي، وتبنّى الماركسية ثم انسحب من الالتزام الحزبي وظل على قناعة بالعدالة الاجتماعية. هو الذي نهل علوم الدين منذ نعومة أظفاره واقتنع بقول أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف النبي (ص) في قصيدة "ولد الهدى": "الاشتراكيون أنت أمامهم". وهو الماركسي والصديق الحميم للكاتب "اليميني" يوسف السباعي. وبهذا الصدد قال لي: "نعم، في مكان ما أختلف مع يوسف السباعي سياسياً، لكنني معجب بسلوكه الإنساني. أؤمن بالاختلاف، بشرط حسن النيّات".
لم يعش عبد الرحمن الشرقاوي عمراً مديداً. توفي عام 1987 وهو في السادسة والستين.
كان في أدبه ملتزماً صارماً عنيداً، وكان في حياته عنيفاً في الخصومة والتأييد للأشخاص، كما للآراء والمواقف. وكان في أعماقه مزيجاً من الاشتراكية والدين. ولد في الريف المصري في قرية في الوجه البحري سنة 1920 في طبقة فلاحية متديّنة. بدأ تعليمه في الكُتّاب، ثم انتقل طفلاً إلى القاهرة وتدرّج في التعليم حتى تخرّج من كلية الحقوق (1943). اشتغل محامياً لفترة وجيزة فقط، وبدأ حياته المهنية كاتباً، فنشر في الصحف قصائد وقصصاً قصيرة ومقالات. لاحقاً احترف الصحافة كما الأدب، وتولّى رئاسة تحرير مجلة "روز اليوسف".
في الشعر بدأ عبد الرحمن الشرقاوي بالقصائد العمودية ذات الاهتمام العاطفي مثل: "أرأيتِ؟ ها أنذا كفرسان الزمان الغادرِ/ لا شيء بعدُ سواكِ يشرق في زحام خواطري". ثم تحوّل إلى شعر التفعيلة والقصائد ذات الالتزام السياسي مثل "من أب مصري إلى الرئيس ترومان".
ومن باب الشعر دخل إلى المسرح. المسرحيات التي كتبها صاغها بالشعر، لكن ليس على غرار أحمد شوقي، وسعيد عقل، وعزيز أباظة، الذين سبقوه في كتابة المسرحيات الشعرية، فهو يختلف عنهم في الشكل وفي المضمون. الشعر في مسرحه هو شعر التفعيلة الذي يجعله أكثر حرية في تطويع الحوار، ويخلّصه من قيود الشعر الكلاسيكي، والمواضيع التي عالجها مواضيع ثورية. وقد أخبرني أن أول مسرحية شعرية كتبها كانت بعنوان "الأسير"، وتجري أحداثها في مصر زمن الحروب الصليبية، لكنها لم تعرض، وأنه أعاد صياغتها غير مرة، ثم صرف النظر عنها. ولم يكن استدعاء التاريخ إلا سبيلاً لمناقشة واقع معاصر مشابه، وهو النضال ضد الغزو الأجنبي. كان التاريخُ ثوباً يلبسه الواقع المعاصر وهو على مقاسه. وهذا نهج سلكه عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيات أخرى.
وكانت "مأساة جميلة" أول مسرحية من تأليفه عُرضت في "المسرح القومي" عام 1962 بإخراج حمدي غيث. وهي مسرحية سياسية بامتياز تناولت ثورة الجزائر من أجل الاستقلال، وصوّرت شخصية جميلة بو حيرد التي كانت مواطنة عادية، لكن ثوريتها ونضالها ومعاناتها جعلتها بطلة ظلت في الذاكرة الشعبية. وفي أحد المشاهد تقول جميلة ونفسها مملوءة بالأسى: "لمَ لا تصيح الأرض في وجه المظالمِ والمجازرْ؟/ لمَ لا يزال الليل يسطع بالنجوم على الجزائرْ؟/ عاد الربيع، فما الذي يرجو الربيع؟ / ما زال زهر الأرض يطفو فوق أمواج الدموع/ والشمس تشرق رغم مأساة الحياة ولا تبالي".
وفي مسرحية "وطني عكا" لم يلجأ عبد الرحمن الشرقاوي إلى التاريخ ليعرض موضوعه. أحداثها تجري عام 1968، أي عاماً واحداً بعد النكسة. ولم يفته أن يعرض رأيه السياسي في هزيمة حزيران "نحن انهزمنا قبل يونيو يا بُنيّْ (…) نحن انهزمنا منذ كُبّلت السواعد (…) نحن انهزمنا منذ واجهنا الخصوم بصدورنا/ والشوك يعمل في الظهور/ فلنعتبر من كلّ ذلك حين نضرب من جديد/ فالنصر في التحرير غارٌ لا يضفره عبيد".
وكان عبد الرحمن الشرقاوي قد عبّر عن الرأي ذاته في مسرحية سابقة "الفتى مهران" التي عرضت عام 1966، أي قبل النكسة بعام. لا يمكن أن يتحقق النصر من دون أن ينعم الشعب بالحرية. وفي المسرحية يبعث البطل مهران برسالة إلى السلطان يقول: "قيودٌ قيود كفانا قيوداً/ وخلِّ القيود لأعدائنا/ فكيف نحارب أعداءنا ونحن نجرجر أصفادنا؟/ وكيف سنسمع قرع الطبول، وعزف النفير، وصيحةَ مُستنفِرٍ للجهاد/ وصلصلة القيد ملء الأُذُن؟".
ويواصل مهران طرح الأسئلة على السلطان: "لماذا أرسلت الجيش إلى أرض السند والخطر جاثم بالباب؟". وأذكر أنني حضرت عرض هذه المسرحية في المسرح القومي في القاهرة، وكان ثلاثة من أهل الصعيد يرتدون الجلباب الشعبي ويجلسون في الصف الذي أمامي. صفقوا مع الجمهور لدى سماع العبارة، وفهموا أن أرض السند هي اليمن، وأن الباب هو سيناء، والخطر هو إسرائيل. كذلك فإن الجمهور أدرك أن السلطان هو الريّس عبد الناصر، وأن عُمّاله هم رجال المخابرات، وأن مهران هو عبد الرحمن الشرقاوي نفسه. وفي رسالته إلى السلطان يخبره: "إن عمالك قد طاردوا الصدق من القلب (…) إن المناجل للسنابل ولأعياد الحصاد، لا لهامات البشر (…) اسمع صرخةَ مُحبٍّ هي خير ألف مرّة من رضا كاظم غيظٍ يرهبك". ولم يفطن الرقيب إلى الرمز، فأحداث المسرحية تجري "أيام زمان" في عصر المماليك، ولم يدرك أن التاريخ استُخدِم لإلقاء الضوء على الحاضر. وبعد عرض المسرحية بأشهر أماط محمود أمين العالم اللثام عن الإسقاط في مقالة عنيفة في مجلة "المصور"، فانتبهت الرقابة وأوقفت عرض المسرحية.
أما مسرحية "الحسين ثائراً وشهيداً"، فمنعت تماماً ولم تعرض في المسرح قَطّ، رغم صدور النص في كتاب نشرته الهيئة التابعة للدولة. اعترض الأزهر على ظهور شخصية الحسين، رغم الموافقة على محتوى المسرحية وحواراتها. كانت فرقة المسرح القومي قد أجرت العديد من التدريبات عليها بإخراج كرم مطاوع وبطولة عبد الله غيث. اقترح الشرقاوي أن تضاف شخصية إلى المسرحية، مهمتها أن تعلن "قال الحسين …"، ويلي ذلك أداء عبد الله غيث الذي يردد أقوال الحسين ويعبّر عن أفكاره من دون أن يكون تجسيداً للشخصية. وقوبل ذلك الاقتراح بالرفض أيضاً. وأخبرني الشرقاوي بمرارة وقال: "الإمام المستنير محمد عبده، شيخ الأزهر، أجاز عرض الشخصيات الدينية على المسرح إذا كان ذلك يُظهِر فضائل الدين". وبعد عودتي من القاهرة إلى لبنان توجهت للقاء الإمام موسى الصدر في مدينة صور. عرضت عليه الأمر، فطلب أن يقرأ النص. ومن بعد أبلغني موافقته على السماح بعرض المسرحية في بيروت، شرط الالتزام بالاقتراح "قال الحسين ….". وفي اليوم ذاته أبلغت الشرقاوي النبأ تلفونياً. لكن الحرب الأهلية نشبت في بيروت، ثم اختفى الإمام الصدر، وبعدها توفي عبد الرحمن الشرقاوي ولم تبصر المسرحية النور.
وينطبق الحدث التاريخي على الآني المعاصر في مسرحية "النسر الأحمر"، وهي في الأصل مسرحيتان: "النسر والغربان" و"النسر وقلب الأسد" وقد دمجهما معاً المخرج كرم مطاوع بالاتفاق مع المؤلف. أما النسر، فهو صلاح الدين الأيوبي، وأما الرابط بين الأمس واليوم فهو مواجهة مصر للمصير بلذة الانتصار مقرونة بأعباء الآيام الآتية. كتب الشرقاوي المسرحية في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين 1973 وعرضت بعد سنتين. وفي المسرحية إحالات رمزية على حالات واقعية. شخصية كوكب ترمز إلى مصر، أما عُلَيْش فهو في المسرحية "زلمة أمير المغرب" وفي الرمز هو الرئيس الليبي معمر القذافي الذي شنّ حملة على الرئيس أنور السادات، والمونولوغ الذي كتبه الشرقاوي وأبدعت سهير المرشدي في أدائه هو "الردّ المصري" إذا جاز التعبير: "ماذا تعرف عنّا أنت؟ أعرفت الجوع وأنت تقاسي كي لا تهدر ما قدّست؟ (…) أعرفت الحاجة حين تلحّ لكي تركع وضميرك يأبى هذا العار؟ (…) أعرفت اللوعة إذ لا دمعة تطفئ نيران الأعماق؟ أعرفت الحسرة تشقي النظرة إذ تنزل قارعة الغدر؟ أعرفت العفة تردي اللهفة في أعمق أغوار الصدر؟ أعرفت الغربة تسبي المتعة في وطنك إذ أنت هنا والحلم هناك؟".
حضرت بعض "بروفات" مسرحية "النسر الأحمر" وعرضها الأول، وأجريت حواراً طويلاً مع عبد الرحمن الشرقاوي نشرت بعضه آنذاك في صحيفة "النهار" البيروتية. قال ردّاً على سؤال: "أنا لا أكتب المسرحية إلا بدافع الحاجة إلى التعبير عن رأي، وأعتبر المسرح أفضل مكان يُقال فيه الرأي الخالص وهو أحب وسائل التعبير لديّ". وحين سألته لماذا يكتب مسرحياته باللغة الفصحى، أجاب: "حاولت أن أكتب مسرحية باللغة العامية وبدأت فعلاً، عنوانها "قلوب خالية"، وعندما فرغت من كتابتها اكتشفت أنها رواية وليست مسرحية!".
وهو نشرها رواية، كما نشر "الشوارع الخلفية" التي اقتبست في المسرح وتحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني وإلى فيلم سينمائي من إخراج كمال عطية. لكن تبقى "الأرض" هي الأهمّ والأكثر رواجاً بين روايات الشرقاوي، خصوصاً بعدما تحوّلت إلى فيلم سينمائي يعتبر من أبرز الأفلام المصرية.
ظهر اسم عبد الرحمن الشرقاوي في عناوين سبعة أفلام، خمسة منها بإخراج يوسف شاهين. السادس هو "الشوارع الخلفية"، وهو فيه مؤلف الرواية وكاتب السيناريو والحوار. والسابع هو فيلم "الرسالة" من إخراج مصطفى العقاد. أما مساهمة الشرقاوي في أفلام شاهين، فهى متنوعة. في "الأرض" هو مؤلف الرواية فقط. وفي "فجر يوم جديد" هو كاتب الحوار فقط (السيناريو لسمير نصري)، وبعضها شراكة في السيناريو والحوار كما في "النيل والحياة" (مشاركة مع كاتب سوفييتي) أو شراكة مع مجموعة كما في فيلم "جميلة" (مع يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعلي الزرقاني ووجيه نجيب)، أو في "الناصر صلاح الدين" (مع نجيب محفوظ وعز الدين ذو الفقار ويوسف السباعي ويوسف شاهين). أما في فيلم "الرسالة"، فكان عبد الرحمن الشرقاوي شريكاً في كتابة السيناريو والحوار مع توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار ومحمد علي ماهر والبريطاني هاري كريغ. وقد اختاره المخرج مصطفى العقاد للمشاركة في كتابة سيناريو "الرسالة" لمعرفته بعمق إدراك عبد الرحمن الشرقاوي للتراث الإسلامي. وله في هذا المجال سلسلة من الكتب ذات الأهمية التراثية والفكرية. من هذه الكتب: "محمد رسول الحرية" و"الصدّيق أول الخلفاء" و"علي إمام المتقين" و"الفاروق عمر" و"عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء" و"أئمة الفقه التسعة"، وهو في هذه السلسلة يشبه الأديب عباس محمود العقاد الذي تناول المواضيع ذاتها. لكن منظور الشرقاوي مختلف، فهو عالج المواضيع الدينية والتراثية بوجهة نظر تؤمن بالاشتراكية عندما تنحصر في قضية العدالة الاجتماعية.
في رواياته ومسرحياته وكتبه التراثية، كان عبد الرحمن الشرقاوي دوماً ثنائي الانتماء. هو ابن الأسرة الفلاحية المولود في الريف يعرف تماماً معاناة الفلاحين. هو ابن المدينة والطبقة الوسطى عاش شخصياً همومها وطموحاتها. هو الذي اطلع بعمق على الأدب العالمي والفكر السياسي، وتبنّى الماركسية ثم انسحب من الالتزام الحزبي وظل على قناعة بالعدالة الاجتماعية. هو الذي نهل علوم الدين منذ نعومة أظفاره واقتنع بقول أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف النبي (ص) في قصيدة "ولد الهدى": "الاشتراكيون أنت أمامهم". وهو الماركسي والصديق الحميم للكاتب "اليميني" يوسف السباعي. وبهذا الصدد قال لي: "نعم، في مكان ما أختلف مع يوسف السباعي سياسياً، لكنني معجب بسلوكه الإنساني. أؤمن بالاختلاف، بشرط حسن النيّات".
لم يعش عبد الرحمن الشرقاوي عمراً مديداً. توفي عام 1987 وهو في السادسة والستين.