دعوة للشجاعة

19 ابريل 2015

تتكاثر النماذج على أن الموقف الأخلاقي شرط مهم (Getty)

+ الخط -

لحظة موت المثقف مكثفة، فيها اختبار عملي ومرصود لموقعه وحضوره ومكانته، وهي لحظة كاشفة، ومجيبة عن أسئلة الاحتفاء والتخليد وحتى الأسطرة. وفي حمأة الموت الذي يتصيّد ثلة لامعة من مثقفي النصف الثاني من القرن العشرين في السنوات الأخيرة، نجد أنفسنا أمام حالات متتالية ومتداعية من الأسئلة والإجابات. ووسط كل هذا، يبرز الموقف السياسي والمقولة الأخلاقية إجابة مركزية عن سؤال التكريس والاعتراف، أو ما يحلو لكثيرين تسميته "الخلود"، وطنياً وحتى كونياً.

في الوقت الذي ينبري فيه المثقفون والصحفيون لرثاء الراحلين، ينحازون لحديث طويل عن مواقفهم السياسية ورؤاهم الأخلاقية، بل وتمكن ملاحظة إلى أي حد تنال هذه الجوانب تركيزاً أكبر من بقية جوانب حيوات الراحلين الثرية والحافلة. وبصرف النظر إن كان السياق سياق مدح أو سياق ذم، فإن الشواهد المتصلة بالموقف والرأي والنشاط السياسي تكاد تكون الأكثر حضوراً، ولعلها المعلومات الوحيدة التي تعلق بأذهان العامة أحيانا. هنالك كثيرون لم يقرأوا سطرا لأدونيس، لكن مواقفه السياسية معروفة لديهم، وهنالك من لا يذكرون لماريو يوسا سوى مواقفه الحميمة مع إسرئيل ومهرجاناتها، وحتى إعجابات بورخيس بإسرائيل وشعبها تطغى أحياناً على الجمال المصفى الذي أضافه للبشرية وأدبها.

وحتى من يحاولون الإصرار على التنقيب في الأثر والمنجز الفني أو الثقافي، من دون انشغال بسيرة صاحبه ومواقفه حيال المتغير السياسي وأبعاده الأخلاقية، سيجدون أنفسهم، مرة أخرى، في مواجهة الموقف الأخلاقي والمقولة السياسية، حتى يبدو، أخيراً، أن الزعم بانفصال الأثر الفني والأدبي والثقافي عن الموقف السياسي خطاب عربي وانتقائي إلى حد بعيد. ولا شك هنا أن الموقف السياسي والأخلاقي اكتسب شطرا كبيرا من أهميته، كونه مرتفعا على رصيد ثقافي وجمالي، أهّلَ أصحابه لارتقاء مكانتهم المشهودة، إلا أن الثابت، وبجلاء، أن المنجز الثقافي نفسه كان تعبيراً عن هذا الموقف، وإلا كيف نفهم بيان غونتر غراس السياسي المدين برنامج إسرائيل النووي مجسداً في قصيدة!

الشواهد تقول، هنا، بوضوح إن حلم الخلود الذي يبدو غاية أرب المشتغلين بالفنون، وحتى المشتغلين بالثقافة، بمعناها العام، متصل، شئنا أم أبينا، بالموقف الأخلاقي، وإلى حد بعيد بالسياسي، خصوصاً في زمن المعلومات هذا، حيث نعرف كل شيء عن المثقفين والأدباء والشعراء، حتى افتتانهم في مراهقتهم بنزعات فاشيةٍ، اجتاحت العالم كله. وهذا الواقع هو ما يجعل المهجوسين بحلم الخلود والتخليد مدعوين اليوم للنظر والتمعن، وللشجاعة بالدرجة الأولى.

والدعوة للشجاعة، هنا، موجهة لمثقفين وفنانين وأدباء وشعراء عرب تحديدا، يخشون إشهار موقف أخلاقي مشرف من قضايا مصيرية، أو يخافون إشهاره، حتى لا يخسروا نظاماً يمول أمسياتهم ويترجم أعمالهم أو يمنحهم رواتب مقابل وظائف وهمية بأسمائهم، أو يخافون أن تسقط أسماؤهم من دعوات مهرجان أو أمسية في هذه العاصمة أو تلك، أو حتى لا يخسروا جمهورا عريضا بات أقرب إلى "الفانز" بلغة السوق والسوشال ميديا.

ومع قليل من التمعن في إحجام المشتغلين بالثقافة والفنون عربياً، عن إجلاء مواقفهم وبيانها من المتغيرات التي تعصف بمجتمعاتهم؛ تظهر الخشية على رأسمالهم الرمزي، وحصيلتهم من الاعتراف والجمهور، وبشكل تسطيحي كامل يرون بيان موقفهم من قضيةٍ ما مهدداً بخسارة معجبيهم ومخالفيهم بالرأي. وما يجري فعلياً هو أن خشيتهم من التغير الطارئ في مواقف "المعجبين بهم" و"مادحي منجزهم ومروجيه وراعيه"، في حال أشهروا مواقفهم المخالفة، تأتي بنتيجة معاكسة في المحصلة، وتفسد المخططات الطويلة المدى للتكريس والاعتراف.

اليوم، تتكاثر أمامكم النماذج والبراهين على أن الموقف الأخلاقي الصرف، حتى إن كان نداء في برية، شرط مهم حتى تذكركم البشرية بخير.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين