دروس من عام رحل

28 ديسمبر 2016

(سمعان خوّام)

+ الخط -
لم تتوقف أمي عن ترديد معلومةٍ، تراها خطيرة أمامنا، هي أن القدماء كانوا يبكون مع غروب شمس كل يوم، لأنه قد مرّ وأُنقص من أعمارهم، فهم كانوا يرون الحياة جميلةً ومشرقةً ومبهجةً، وتستحق أن يبكي الإنسان على انقضاء يومٍ منها، فلم تكترث لاحتفالٍ بعيد ميلاد أحدنا، أو ببداية عام ميلادي جديد، أما جدّي فقد كان يرى أن "الدنيا" لم تتغير منذ الأزل، فالشمس ما زالت شمساً، والقمر كذلك، والليل والنهار يتعاقبان، ولكن البشر هم من يتبدّلون ويتغيرون، ويشوّهون دنياه التي يحب.
في هذا الزمن، أفكر بكلام أمي، فلا أرى شيئاً يستحق البكاء، لأن الواقع مُزرٍ والقادم أسوأ. أما وصف جدي فصادق وحقيقي، والجلوس برهةً من الوقت، والتأمل في ما حولك من أحداث قريبة وبعيدة، يدفعك إلى أن تضع يدك على خدك، وتتفكّر بكلام هذا الجد الراحل الذي لم يتلقَّ علماً، ولكن الحياة كانت مدرسته الكبرى.
وهكذا، وهذا العام يوشك على الرحيل، اتخذت مكاناً قصياً، ووضعت يدي على خدي، واستعرضت ما مر به من أحداث حولي، وكأن اثني عشر شهراً ما هي إلا شريط قطارٍ، سرت فوق قضبانه بسرعة، خوفاً من أن يصدمني، فوقعت وتعثرت وارتطمت قدمي بالقضبان الحديدية، فأوجعتني، ولكني أكملت السير بخدوش وجروح.
خلال العام الذي يطوي أوراقه، عثرت على صفحة سارّة، وربما حين يرى الإنسان أن مبدأً يؤمن به قد تحقق على أرض الواقع، ولو على نموذجٍ صغير، يعتبر ذلك إنجازاً صغيراً وفاتحة خير، فثلاث شابات من صديقاتي الافتراضيات، وممن يفترض أنهن تأخّرن في سن الزواج قد تزوّجن خلال العام، وكل واحدةٍ كانت تطلب مشورتي، فيما ذهبت إليه، وهو عدم تعجّل قرار الزواج، لمجرد الفرار من لقب قميء، وهو لقب عانس، والذي يوصمها به المجتمع، ولا يتفوّه به الأهل، لكنها تقرأه في عيونهم، وتلمحه من تصرفاتهم معها، فهنيئاً لثلاث صديقاتٍ قرارات متـأنية ومتـأخرة، لكنها تمخضت عن زيجاتٍ موفقة، واختيارات عاقلة هادئة، إيماناً منهن، وكما علمتهن، واقتنعن فعلاً أن الزواج محطةٌ في الحياة، وليس الحياة كلها، وأنه أيضاً خطوة تحتاج إلى تفكير، لكي لا يكون من نتائجها أطفال ضحايا لاختيارات متسرّعة، أو حسابات غير دقيقة.
وتعلمت الدرس الأكبر أن في تسطيح العلاقات نجاة، وأن "وجع الرأس" قد يأتي من قلبٍ يشفق بتوقيت خاطئ، فلأني من هواة استخدام سيارات الأجرة المتهالكة في تنقلاتي، لن أسمح لحديثٍ أن يمتد مع راكبةٍ بائسةٍ، يسيل مخاط طفل على حجرها، لأني فعلت ذلك، وندمت، واكتشفت أنها تسمعني أسطوانةً كرّرتها عشرات المرات على راكباتٍ مهندماتٍ لتبتزّ أموالهن، فقد اتضح لي أن دخلها الشهري من التسول يفوق دخلي بأضعاف.
وخلال العام، رحلت كوكبة من نجوم الفن الذين أحببنا، لأنهم رافقوا طفولتنا ومراهقتنا، وآخرهم قطة السينما، زبيدة ثروت. وحين شاهدت مقطع فيديو قصيراً ونادراً في لقاء تلفزيوني لها بعد تقدمها في العمر، وتعمدت الكاميرات التعتيم على ملامحها، أدركت زيف هذا العالم، وبأنه يصفّق لجمال لا يدوم، وبأن الزمن لا يرحم حتى الفاتنات، والأهم أن الكل يرحل ويُنسى، مهما بلغ من المجد والشهرة، فالقطة زبيدة كانت فتاة أحلام ملايين الشباب الذين لم يسرّهم قطعاً أن يكتشفوا أنها ماتت عن 76 عاماً.
أما الدرس الأكبر فهو ألا أحلم، وأخطط للأعوام المقبلة، ففي بلادنا العربية أصبح الموت أوسع رقعةً من رقعة الحياة، ولا مكان للأحلام والفرح، وتربية الأمل التي تحدثت عنها مراراً تشبه من تنتظر وليدها، وهي لا تدري أنه ميتٌ في رحمها، ففي غزة المقتولة فقراً وحصاراً، التقت إعلاميةٌ بطفلٍ يبيع الصحف مع مطلع عام 2016، وسألته ماذا يتمنى في العام الجديد، فأجاب: يمكن نفسي أموت، وقد تحقّقت أمنيته فسقط الطفل من علوٍّ، وهو يبحث عن خشبٍ للتدفئة فوق سطح بيتٍ بلا أسوار، ومات قبل أن ينتهي العام...
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.