درس مذبحة ماسبيرو في ذكراها الثالثة

12 أكتوبر 2014

تضامن مع ضحايا "ماسبيرو" في ذكراهم الثانية (9أكتوبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

قد يكون من القسوة أن ننتقد من يعانون ألماً مختلطاً بدماء أبنائهم، ولكن الوجه الآخر، والذي لا يريد أن يراه أحد أن الرحمة تكمن في هكذا قسوة، حتى يتعلموا من أخطائهم، ولا يخطئوا ثانيةً!

في 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مرت ثلاث سنوات على "مذبحة ماسبيرو" في القاهرة، والتي راح ضحيتها 24-35 مواطناً مصرياً، ديانتهم المسيحية، في مشهدٍ لا يمكن أن ينساه كل من ينتمي للحراك الثوري في مصر، وكل من يحمل تعاطفاً معه في الداخل والخارج.

بدأت القصة في محافظة أسوان، حيث تم التعدي على كنيسة الماريناب، والتي قيل، آنذاك، إنه تم بناؤها من دون ترخيص. ومشكلة ترخيص بناء الكنائس قضية يطول شرحها، إلا أن المهم، هنا، أن المتظاهرين الذين بدأوا مظاهراتهم، في حي شبرا بالقاهرة، رفعوا مطالب حقوقية، تتعلق بضرورة وقف التعدي على الكنيسة، وإقالة محافظ أسوان الذي أصدر تصريحاتٍ، اعتبرت مسيئة في حق المواطنين المصريين المسيحيين والمسيحيات. ولم تمر المظاهرات بسلام، حيث حدث اشتباك بين جنود ومتظاهرين، أدى إلى قتل متظاهرين عديدين ودهسهم، والأسوأ كان في تبرير الإعلام الحكومي مثل هكذا قتل، باعتبار أن المتظاهرين لم يكونوا سلميين، واعتدوا على الجنود، وقتلوا منهم. لم يُفتح تحقيق عادل بشأن هذه القضية، ولم يثبت موت الجنود، بينما ثبت قتل المتظاهرين وسحلهم!

وطرح المشكلة القبطية في مصر في إطار طائفي، وانسلاخها عن "التمحضن" في الجماعة الوطنية، هو ما جعل الأقباط في تلك الفترة، وقبلها، فريسة سهلة للتفاهمات التي تتم بين مَن في السلطة وأجهزتها ورأس الكنيسة، فكلاهما يستفيد من أن يخرج هكذا ملف من إطار الجماعة الوطنية، ليُطرح باعتباره قضية أقلية، يختص بها من ينتمون إليها، وليست قضية وطنية يشترك فيها من لا ينتمون دينياً لهذه الأقلية. 

وبالتالي، كان من السهل على وسائل الإعلام التابعة للنظام، آنذاك، أن تقوم بعملية تصنيفية لهؤلاء الأقلية، واعتبارهم أعداء للوطن ولمؤسسات الدولة، ونزع الإنسانية عنهم، وبالتالي، تبرير قتلهم وسحلهم بوحشية، من دون اعتبارات للمواطنة والحقوقية.

وبالتالي، قد يكون من المناسب للحراكات المسيحية، في تكوينها ونشأتها، أن تبدأ بمراجعات حقيقية حول تشكيلها واستراتيجية عملها، خصوصاً أن القضايا الحقوقية المرتبطة بالأقباط كثيرة، وتظهر بين حين وآخر، ولا يتم تقديم علاج حقيقي لها، بل يتم إخمادها في إطار علاقات الكنيسة بالسلطة. كما أن النظر لكل مشكلة يكون أحد أطرافها مسيحياً باعتبارها قضية طائفية غير دقيق، لأن هذه المشكلة متعددة الأبعاد، يشتبك فيها الديني والمجتمعي والاقتصادي (صراع على الموارد) والثقافي، واختزالها في الديني يؤخر الحل، ويزيد من تفاقمها وبقائها رهينة للتفاهمات الكنسية الأمنية.

وبالتالي، يعد جلباب المواطنة الأفضل من الجلباب الكنسي للضغط للحصول على الحقوق، وفتحها ومناقشتها، ليس لأبناء الأقلية، وإنما للمواطنين والمواطنات المصريين.

وقد كان رفع الإنسانية عن متظاهري ماسبيرو من المواطنين والمواطنات، وإزالة أي حقوق لهم، خطاب الإعلام الحكومي في ذلك الوقت. وتكمن المشكلة في تبني جماعة الإخوان المسلمين والدعوة السلفية، بحزبيهما، هكذا خطاب، بل وسبغه بغطاء ديني، يبرر المجزرة دينياً وأخلاقياً. جماعة الدعوة السلفية، بحزبها النور، أمامها وقت طويل، لتقدم على فهم حقيقي وفعل يمكن فهمه، للعمل السياسي الديمقراطي.

لكن، المشكلة الحقيقية تكمن في جماعة الإخوان المسلمين، ذات التاريخ الطويل في العمل السياسي والنضال الإصلاحي، لأن هذا الفعل كشف الغطاء عن وجود ازدواجية في التعامل مع الآخر، المختلف دينياً، وفي مواطن أخرى، مثل حادثتي مجلس الشعب والاتحادية مع المختلف فكرياً.

وبالتالي، قد تكون الأوراق التي قدمتها الجماعة في التسعينيات، أو تصريحات بعض قادتها عن علاقتهم بغيرهم من الأحزاب والحركات، لم تعد مقنعة للجميع، وأصبح من الواجب عليهم أن يقوموا بمراجعات حقيقيةٍ، لا تقف عند حدود التصريحات الإعلامية والنفعية السياسية، للتوغل في إطارهم الفكري وهياكلهم التربوية.

إن ما تعرض له المصريون والمصريات المنتمون لجماعة الإخوان المسلمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة، وما تلاها من اعتقالات وتعذيب واغتصابات، هو ما حدث في "ماسبيرو"، ولكن بشكل أكثر اتساعاً وأكثر فظاعة.

في الحقيقة، لقد نُزعت الإنسانية عن أتباع الجماعة يوم تبنوا خطاب نزع الإنسانية عن المواطنين والمواطنات في "ماسبيرو"، وما تلاها من مظاهرات في أحداث شارع محمد محمود وأحداث مجلس الوزراء.

وفي الواقع، كل الحركات السياسية، الثورية منها والإصلاحية المصرية، وقعت في فخ تبني خطاب المؤسسات السلطوية التي تستفيد من تناقضات هذه الحركات فكرياً، وعدم التزامها بالقيم الحقوقية تجاه بعضها. وهذا، في الحقيقة، يكشف عن خلل عميق، يكمن في الإطار الفكري لجميع الحركات السياسية في مصر، كل حسب درجته، والنخب المرتبطة بها.

تكسب النظم السلطوية، دائماً، بقاعدة "فرق تسد". وبالتالي، كان الدخول في تفاهمات مبكرة مع جماعة الإخوان المسلمين وسيلة جيدة لعزلهم عن الحاضنة الثورية. وهذا، بالفعل، ما حدث مع الأحزاب المصرية غير الدينية، في مرحلة ما بعد "الإخوان"، إلا أن الواقع يشهد بأن الجميع وقع تحت طائلة القمع، بدرجات متفاوتة، وأن ثمة تنكيلا يحدث لجميع المواطنين والمواطنات على المستويات الحقوقية كافة، وأن هناك اتجاها لدفع المجتمع، بكل تنويعاته، نحو القبول بتنكيل الآخر، طالما أنه مستبعد، ولو مرحلياً، من هذا التنكيل والقمع.

آن الأوان للحركات والأحزاب السياسية المصرية أن تطرح قضية رؤية الآخر، بشكل أكثر عمقاً وصراحة، وإن أدى ذلك إلى تشاحنات داخلية في أجسادها المهترئة فكرياً وتنظيمياً. فالأنسنة لا يمكن أن يتم قصرها على من ينتمي إلينا فكرياً أو دينياً أو عرقياً، بل للجميع. وهذا مرتبط، أيضاً، بإعادة التفكير في رؤية تلك الحركات للدولة ومنظماتها. فتبني خطاب الدولة السلطوي الأمني لا يعني سوى استمرار المجتمع في تيه العبودية لهذه الدولة وأنظمتها الديكتاتورية، سواء بمسحة دينية، أم علمانية، أم عسكرية.. هذا ما يقدمه درس "ماسبيرو" الأسود، لمن ألقى السمع!

دلالات
EB663898-3457-459C-B1E2-A40FE222DCB7
نجوان الأشول

كاتبة مصرية، رئيسة المركز العربي لتحويل النزاعات والتحول الديمقراطي، باحثة دكتوراه في الحركات الاجتماعة والإسلامية بالجامعة الأوروبية، عملت باحث دكتوراه في المعهد الألماني للدراسات الدولية. تنشر مقالات بالعربية والانجليزية.