أصدر مركز "كارنيجي" للسلام الدولي، دراسة حديثة حول الإمبراطورية الاقتصادية للجيش المصري ومدى تدخل القوات المسلحة المصرية في اقتصاد الدولة.
وأوضحت الدراسة، التي وصلت "العربي الجديد" نسخة منها، أن نفوذ الجيش في الاقتصاد المصري بدأ في خمسينيات القرن العشرين، لافتة إلى أن هذا النفود جاء في إطار أنموذج التنمية السائد آنذاك، والذي حدّد الجيش على أنه طرف رئيس في التصنيع المحلي والتحديث الاقتصادي، مشيرةً إلى أنه تحت شعار "التنمية التي تقودها الدولة"، احتّل القطاع العام دوراً مركزياً في النمو الاقتصادي، وأصبح الجيش المصري قاطرة الصناعة والمزوِّد للخدمات العامة.
وأضافت: "الواقع أنه حتى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية اعتبرت القوات المسلحة المصرية الشريك المفضّل لإبرام العقود".
ووفقاً للدراسة، فإنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، الذي قاد مصر من العام 1954 إلى
العام 1970، وُجِّهَت موارد الدولة نحو الجيش الذي لعب مهندسوه ومقاولوه الدور الرئيس في مشاريع استصلاح الأراضي، وإقامة البنى التحتية العامة، وتوفير السلع الأساسية، والصناعة المحلية للأجهزة الاستهلاكية والإلكترونات، وكذلك إنتاج السلع الصناعية والزراعية كالفولاذ والسماد.
وذكرت أنه في عهد خليفة عبد الناصر، أنور السادات، حدث تحوُّل محدود في الأنشطة الإنتاجية للجيش، حيث جرى التركيز على الصناعات الأكثر ارتباطاً بالدفاع، بيد أن السادات لم يؤسّس وحسب الهيئة العربية للتصنيع لهدفٍ رئيسٍ هو صناعة الطائرات العسكرية، بل حوّل أيضاً تركيز مصر الدبلوماسي من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة، موضحة أن هذا يعود جزئياً إلى أن الأميركيين كانوا مصدراً يُعتَدّ به أكثر للعتاد العسكري والتكنولوجيا والتدريب.
اقرأ أيضاً: الجيش يُدير "بيزنس" الأمن الخاص في مصر
ولفتت الدراسة إلى أنه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي أصبح رئيساً بعد اغتيال السادات في العام 1981، بدأ موقع القوات المسلحة التاريخي، بوصفها مهندسة تحديث مصر، بالتآكل بشكل كبير، بيد أن الجيش تمكّن من الحفاظ على لائحة طويلة من الامتيازات المالية والصناعية، بما في ذلك الوقود المدعوم، والسيطرة على قطاع العقارات المُربِح، واستخدام الأذونات الخاصة، وممارسة إشراف خارج عن القانون في قطاعات تراوح من البتروكيماويات إلى السياحة، لكن العائدات الاقتصادية لهذه الامتيازات تراجعت بعد أن خسرت الدولة المصرية قوة السوق أمام المستثمرين الخاصين والدائنين الدوليين.
وفي الوقت نفسه، أسفر الانحدار السريع للاستثمارات العامة عن تقليص عائدات الجيش الراسخة سابقاً، والتي استخدمها لدعم قاعدته الصناعية وتوفير الوظائف لعناصره.
وأضافت أنه مع تداعي سلطة مبارك، ضاعف الجيش جهوده لإبرام اتفاقات إنتاج مشترك مع شركات دفاع أجنبية، الأمر الذي لم يعنِ فقط توفير فرص أفضل لصادرات مستقبلية، بل أيضاً الحصول على مداخل إلى تكنولوجيات جديدة ومواقع محتملة للضباط في مشاريع مرموقة.
وذكرت الدراسة أنه على سبيل المثال، في 11 فبراير/ شباط 2011، أعادت البحرية المصرية التفاوض حول عقد بقيمة 13 مليون دولار مع شركة "سويفتشيب" سبق أن وُقِّع في العام 2008. ونصّ العقد المعدَّل، الذي زادت كلفته بنحو 20 مليون دولار لسفن الدورية الأربع نفسها التي وردت في العقد الأصلي، على أن يشارك حوض مصري لبناء السفن في تجميع هذه السفن وإنتاجها، وتضمّن أيضاً نقل التكنولوجيا، وبناء منشآت جديدة، وعقوداً طويلة الأمد لقطع الغيار والتصليحات، وتدريباً جديداً للعنصر البشري.
وخلال حالة عدم الاستقرار التي سادت الأجواء السياسية في مصر عقب ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، قمعت القوات المسلحة التظاهرات العمّالية التي اندلعت على مقربة من العمليات الاقتصادية الكبرى، التي للجيش مصالح مالية مباشرة فيها، بما في ذلك مصانع معالجة البتروكيماويات، ومناطق التصدير، والمرافئ البحرية، ومشاريع التصنيع متعدّدة الجنسيات. وكان هذا صحيحاً على وجه الخصوص في السويس، حين اشتبك عناصر الشرطة العسكرية (وأفراد الشرطة السرّية من وزارة الداخلية)، مع المحتجّين والعمّال المضربين، كما قامت الشرطة العسكرية بفضّ إضرابات في مطار القاهرة، حيث المواقع الإدارية العليا والتنفيذية في هذا الصرح كانت محفوظة للضباط المتقاعدين كنوع من برنامج تقاعد غير رسمي.
أما شركات الأسهم، التي ليس لديها تاريخ من التعامل مع الجيش، مثل تلك المرتبطة بجمال نجل حسني مبارك الأصغر، فهي كانت أقل حظاً، وكذا الأمر بالنسبة إلى شركات مرتبطة (أو
يُعتقَد أنها مرتبطة) بجماعة الإخوان المسلمين، وكما أن الشرطة العسكرية تخلّت استراتيجياً عن حماية القصر الرئاسي والمستشفيات العامة الكبرى، في مسعى إلى تقويض سلطة مبارك (وسلامته الشخصية) خلال أحداث مفصلية كبرى.
وأوضحت الدراسة أن الشركات المرتبطة بالإخوان المسلمين، حُرِمَت من نوع الحماية الأمنية والبوليسية التي وُفِّرَت للشركات الشريكة للجيش.
وذكرت أنه طيلة فترة ما بعد الثورة، استخدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة استثماراته الاستراتيجية للتأثير على أسلوب تغطية الأخبار، وبأنه من خلال البيانات العامة، أبرزت المساهمات الخيرية للقوات المسلحة المصرية في الاقتصاد المصري، وتم الإعلان عن منح 58 مليون دولار إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، لافتة إلى أنه ما لم يُفصح عنه هو أن الهيئة العربية للتصنيع التابعة للجيش مُستثمِرة إلى جانب الاتحاد في شركة الفضائية المصرية، وهذه الشركة، المعروفة بـ"نايل سات"، أثبتت أنها شريك يُعتَدّ به للجيش في الثورة المضادة في خريف العام 2013، حين منعت فضائية الجزيرة من استخدام قمرها الاصطناعي لبثّ صور عن الأزمة المتواصلة في مصر.
وأوضحت أن الأكثر أهمية أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ضَمِنَ أن الأحزاب السياسية الرئيسة المشتركة في النظام الانتخابي الجديد، ستدعم استمرار حصانة الجيش من الرقابة على الموازنة. وعلى الرغم من بعض المطالب الأوّلية لفرض المحاسبة، لم يستطِع جهاز الكسب غير المشروع تطبيق السلطان القضائي على الضباط العسكريين، وهذا يعود جزئياً إلى أن العديد من الخبراء القضائيين وضعوا الأولوية لملاحقة عصبة رجال الأعمال وثيقة الصلة بمبارك، بدلاً من وضع الجيش تحت السلطة القضائية المدنية.
تحالف الجيش وجماعة الإخوان المسلمين
وبعد انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر في منتصف 2012، ما يثير الدهشة، بحسب الدراسة، هو أن المبادئ الدستورية نفسها التي تضمّنت الحصانة القانونية للجيش، والتي أثارت سابقاً إدانة عنيفة وقاسية من قِبَل حزب الحرية والعدالة، أُدخِلَت في خاتمة المطاف إلى الدستور الذي عُرِضَ على مرسي في كانون الأول/ ديسمبر 2012، كما تم في الدساتير اللاحقة ضمان إعفاء الجيش من الحظر على العمل الإجباري (ما سمح باستمرار نظام أعمال الخدمة في الجيش)، وأيضاً ضمان سريّة المؤسسات المالية الخاصة بالقوات المسلحة.
ولفتت إلى أن هذه التسوية المؤقّتة بين حزب الحرية والعدالة والجيش أثبتت أنها من عمر الورود، بعد إعلان مرسي الانفرادي الخاص بإنهاء خصخصة شركات القطاع العام، الذي قضى على السردية عن وفاقٍ بين القوات المسلحة وحزب الحرية والعدالة، لأن المصانع العسكرية كان يُحتمَل أن تكون على خط الخصخصة في الجولة التالية من عملية البيع.
وذكرت أنه، وفيما كان حزب الحرية والعدالة يعلن عن خطط قناة السويس، كشف مستشار حكومي مصري النقاب عن أن الإشراف على التوسيع سيوضع بين يدي رئيس واحد سيكون في رتبة نائب رئيس الوزراء ويكون تابعاً مباشرة لمرسي، الأمر الذي جعل القوات المسلحة مجرد واحدة من مجموعة هيئات حكومية منخرطة في هذا الجهد، وقد كانت هذه الخطوة الهادفة إلى تهميش دور الجيش في أكبر مشروع للبنى التحتية منذ عقود، حاسمة في جعل حزب الحرية والعدالة يخسر دعم القوات المسلحة.
تعزيز المكاسب في حقبة ما بعد مرسي
وقالت الدراسة إنه في عهد السيسي والحكومة المؤقّتة المدعومة من الجيش، زادت قدرة القوات
المسلحة المصرية على تحويل أموال الدولة إلى المشاريع التي لها مصالح فيها، وأوردت أحد الأمثلة على ذلك، وهو القرض الذي قدّمه البنك الأهلي المصري بقيمة 20 مليون دولار، في كانون الثاني/ يناير 2014، لفرع من شركة ثروة للبترول، التي يمتلك الجيش حصة مباشرة فيها.
وكما كان متوقَّعاً، استُخدِمَت حزمة حوافز بقيمة 4.9 مليارات دولار، مموَّلة إلى حدّ كبير من الإمارات العربية المتحدة، لتمويل عقود البنى التحتية الأساسية التي مُنِحَت لشركات تابعة للجيش.
وفي العام 2014، صدر مرسوم عن الحكومة المؤقّتة، يقضي بتوسيع قدرة الوزراء على توقيع العقود أحادية المصدر، الأمر الذي أدّى إلى انتقال أجزاء ضخمة من الاستثمار العام إلى الشركات العسكرية وشركائها، الذين مُنِحوا أيضاً عقود خدمات مهمة، بما في ذلك امتيازات طويلة الأمد لتشغيل بعض أكثر الطرق السريعة ازدحاماً في مصر (وتحصيل رسوم استخدامها)، وفي غضون الأشهر العشرة الأولى فقط في ظل الحكومة المؤقّتة، فاز الجيش بحوالى 770 مليون دولار من العقود، وأكثر من مليار دولار من العقود الحكومية أحادية المصدر على مدى ثلاثة أشهر في خريف العام 2014، بحسب الدراسة.
واخيراً توضح الدراسة بعض السيناريوهات المستقبلية المتوقعة بخصوص نفوذ القوات المسلحة على النحو التالي:
- الانقسامات في الجيش يمكن أن تطفو إلى السطح، قد يتسبّب تصاعد نفوذ حلفاء الجيش الجدد بانشقاقات كانت مغمورة، في سياق صراع الأجنحة، للحصول على حصة في الحقل الاقتصادي والسياسي الجديد.
- الأدلة التي تشير إلى أن الجيش عمل في الكواليس لإثارة الاحتجاجات وإضعاف خصومه قد تُضعِف نفوذه، المعلومات التي بدأت تظهر في أواخر العام 2014 حول دور الجيش المباشر في تمويل الاحتجاجات المناهضة لمرسي، وتلاعب القيادة الواضح بالنظام القضائي والإعلام، قد تدقّ في نهاية المطاف إسفيناً بين النظام وداعميه الليبراليين.
- قلق الجيش الأكبر ليس التهديد الذي يمكن أن تتعرّض إليه امبراطوريته الاقتصادية، بل عودة الاحتجاجات واسعة النطاق ضد الحكومة، إذا اضطرت حكومة يقودها الجيش إلى الطلب من القوات المسلحة قمع الاحتجاجات عن طريق العنف، فقد يواجه هو خطر حصول انشقاق داخلي وأزمة شرعية.
اقرأ أيضاً: المؤتمرات الاقتصاديّة: السيسي ينافس مبارك