دحلان وعباس والانشقاق العاري

31 مارس 2014
+ الخط -

كانت حركات الانشقاق الفلسطينيّة، فيما مضى، تولد مموّهةً بالأيديولوجيا من جهة، وبالأخلاق من جهة أخرى. ولذا، فإنّ كلّ الفصائل الفلسطينيّة، والتي تناسل بعضها من بعض كالفطر (باستثناء فتح الأمّ)، كانت تحرص، في الغالب، على إِبراز وجهها الأيديولوجيّ (الماركسيّ، أَو القوميّ، أَو الإسلاميّ) أَكثر من حرصها على (المقاومة).  وكانت، كلّها تقريبًا، تعتبر الانشقاق كالكيّ الذي هو آخر العلاج، أي انّها تجد فيه فعلاً نقديّاً تطهّريًّا، ناجمًا عن اليأس من إصلاح الذات، فيما هو، في الحقيقة، استجابة للنزعات التدميريّة اللانقديّة الّتي تعصف عادةً بروح الجماعة في لحظات الاضطراب والهزيمة.

ولقد مارس العقل السياسيّ الفلسطينيّ قدرًا كبيرًا من التدليس على الذات، حين غفل، أَو تغافل، عن قراءة تلك النزعات التدميريّة الكامنة، وعَمِيَ، أَو تعامى، عن رؤية ذلك (اليأس المموّه) الذي ظلّ يعطّل مشروع المقاومة لدى الفلسطينيّ، ويستنزف طاقاته الثوريّة الكبيرة، ويحيل امتلاءَه بالمعنى إِلى خواء. ولكي نحرّر عقولنا من التدليس، علينا أَن نعترف بأنّ طاقة الانشقاق، والتي أنتجت لنا كلّ ذلك العدد من الفصائل الثوريّة، هي، في الحقيقة، طاقةٌ ضدّيّةٌ معادية للثورة، على اختلاف أَلوانها ومسالكها ومشاربها الأيديولوجيّة والسياسيّة.

إنّ الانشقاقات المتوالية، والتي كانت تريد الوصول إِلى الثورة النقيّة، لم تكن تحدث في الفراغ، بل في لحم الثورة ذاتها، وذلك ممّا أَنهك الثورة، وجعلها عاجزًة عن القيام بوظائفها الحيويّة. ومن المفارقات التي تسبّب الذهول، حقًّاً، أنّ التحوّل الفلسطينيّ الكبير من الثورة إلى السلطة، وكانت اتفاقية أوسلو أبرز ثمراته المرّة، لم يكن مصحوبًا بأيّة حالة انشقاق، كما كان يفترض أن يكون. توقّف السعي إلى (الثورة النقيّة)، حين جمّدت الثورة، وتحوّل معظم عمل الفصائل من الكفاح المسلّح إلى السياسة التي لا تؤمن بالنقاء الثوريّ. هكذا، توقّف (الانشقاق المموّه)، ومع أنّ كثيرين اعتبروا الصراع بين حركتي حماس وفتح (حالة انشقاق)، إِلاّ أنّه، في الحقيقة، لم يكن كذلك، لأنّه صراعٌ ممتدّ بين طرفين موجودين أصلا قبل "أوسلو"، ومتنافرين، ومنهمكين في تنافس حادّ على كلّ شيء تقريبًا.  

مع مجيء السلطة الفلسطينيّة، إِذن، انتهت كلّ أَشكال الانشقاق الجماعيّ المموّه بالأيديولوجيا والأخلاق، ونشأ، داخل الحاضنة الفتحاويّة الخصبة، شكلٌ جديد من الانشقاق الفرديّ العاري الذي لا يتّخذ له أيّ لبوس أيديولوجيّ، أَو أَخلاقيّ؛ والذي بلغ ذروته بحفلة الشتائم والاتّهامات المتبادلة علنًا في الفضائيّات بين محمود عبّاس ومحمّد دحلان.

اتّخذ الصراع بين الرجلين طابع الشجار الشخصيّ في الظاهر، لكنّه كان، في الحقيقة، صراعًا على السلطة، بكلّ ما تعنيه السلطة من نفوذ وامتيازات ضخمة، ليس، فقط، ضمن الدائرة الفتحاويّة والفلسطينيّة، بل ضمن الدائرتين، الإقليميّة والدوليّة، أيضًا. إنّه ليس من الصعب، مثلاً، اكتشاف البصمات المصريّة التي بدت جليّةً في خطاب دحلان، في أَثناء لقائه مع قناة دريم المصريّة، وذلك يعني أَنّ ما قام به دحلان ليس مجرّد ردّ فعل شخصيّ، غاضب على خطاب عبّاس، بل هو شروع مدروس في التأسيس لانشقاق فرديٍّ عارٍ عن سلطة عبّاس، تدعمه مصر والإمارات، ولا تعارضه ـ الآن على الأقلّ ـ حركتا حماس والجهاد الإسلامي وأَطياف أخرى من الشارع السياسيّ الفلسطينيّ، الناقم على عبّاس.

ولعلّ نفي أمين سرّ المجلس الثوريّ لحركة فتح، أَمين مقبول، حدوث أيّة انشقاقاتٍ في صفوف الحركة، على خلفيّة الصراع الدائر بين عبّاس ودحلان، مؤشّر ضمنيّ على أنّ ثمّة مناخًا ملائمًا للانشقاق داخل فتح. لكنّها، الآن، أَضعف من أن تنشقّ. ذلك ما تؤكّده استقالة عضو المجلس الثوريّ لفتح، سفيان أبو زايدة، احتجاجًا على خطاب عبّاس (لما فيه من خطورة على كوادر عديدة في فتح)؛ وهذا كلام خطير، تفوح منه رائحة الانشقاق.

من المهمّ الانتباه، أَيضًا، إلى الربط العجيب الذي قام به دحلان بين الرئيس المصري السابق محمد مرسي وعبّاس، حين اتّهم الأخير بأنّه "عمل مخبرًا عند مرسي". إنّه اتّهام يثير السخرية بطبيعته، لكنّه يكشف عن عدم قدرة دحلان على إخفاء رغبته في استعداء المصريّين على غريمه عبّاس، والّذي لم يتعاون جدّيًّا مع مصر للتخلّص من "حماس"، بينما كان يعمل، في السرّ، مخبرًا عند حليفها محمد مرسي.

ليست رغبة دحلان تلك مجرّد أمنية بسيطة، أَو محاولة ساذجة للتأثير على المصريّين، بل هي علامة على مساحة وجدانيّةٍ وفّرتها السلطة المصريّة لدحلان، لأمرٍ ما، كأن تكون ضالعة في إعداده للقيام بمغامرة انشقاقيّة. 

بدا دحلان، في لقائه مع (دريم)، كمن يدرأ التهمة عن نفسه، وواضحٌ أنّ الضوء الذي سلّطه، بوحشيّةٍ، على عورة عبّاس، كان حيلة لتعمية الأبصار، وصرفها عن عورته هو. ذلك ما سبق لمشبوه آخر، هو محمّد رشيد، أَن فعله في لقاءٍ له مع قناة العربيّة، وهو ليس ممّا يمكن اعتباره فعلاً نقديًّا تطهّريًّا، مثل الذي كانت تمارسه الانشقاقات المموّهة.

لقد أَفلت الثورة، بأَحلامها وأَمراضها النبيلة، وها هي السلطة لا تنتج إلاّ الخواء.

3EB1E10F-A857-4544-8A47-AF6FE85B9960
زهير أبو شايب

شاعر وكاتب من فلسطين. مواليد 1958، له من المجموعات الشعرية "دفتر الأحوال والمقامات" و"ظل الليل"، و"سيرة العشب"، وغيرها. ومن الكتب "ثمرة الجوز القاسية". فاز بجائزة مؤسسة محمود درويش.