داعش وداهش والصرخي بينهما

10 يوليو 2014

عنصر من داعش في أحد شوارع الرقة السورية (إنترنت)

+ الخط -

يطوي المشرق العربي، في هذه الأيام، على ما تُنبئ به وقائع الأحوال العجيبة، مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية برمّتها، وها هو يتجه نحو حقبة غبارية سديمية، ربما بدأت غداة الاحتلال الأميركي للعراق في 9/4/2003، ولم تتضح معالمها تماماً بعدُ. وما نشاهده، اليوم، إنما هو اشتباك العجاج بالنقيع، في مشهد مروِّع، لم تألفه العين العربية قط؛ فقد عدنا إلى مفرداتٍ، مثل الخلافة والشريعة وأهل الذمّة والروافض والنواصب والجزية والطاعة وعقد الأمان ودار الحرب ودار الاسلام والشورى وأهل الحل والعقد والمبايعة، واندثرت من اللغة السياسية السائدة عبارات، مثل النهضة والتقدم والحداثة والتحرّر والديمقراطية والحريات الفردية والمواطَنة والمساواة والعدالة الاجتماعية والدستور وغيرها. ومثلما أن هناك شبه قانون لموت الحضارات، هناك، أيضاً، في الفيزياء مصطلح التآكل، وفي علم الأحياء مصطلح الشيخوخة، وفي الكيمياء مصطلح التحلّل، والفساد في علم الاجتماع، والانحطاط في التاريخ. أما في السياسة، فثمّة مصطلح "التشرنق". وما يجري اليوم في العراق وسورية هو "التشرنق" بعينه، أي انتصار الماضي على الحاضر.
* * *
كان العالم العربي يحتمل، في طور محاولاته للصعود، شخصيات مثيرة مثل الدكتور داهش (اسمه الأصلي سليم العشي من القدس). وكان لا بد من كوميدياتٍ سودٍ أحياناً، من طراز محمود الصرخي ومقتدى الصدر. لكن، هل يحتمل، اليوم، وهو في طور انحطاطه وانحداره المتسارع، شخصية من عيار أبو بكر البغدادي؟ كان داهش شخصية درامية وانتحارية، ولديه قدرات إخفائيّة وإيهاميّة خارقة. إنه "هوديني" العرب الذي انتحرت من أجله الأديبة اللبنانية ماجدة حداد، في سنة 1945، ودخلت في طاعته أفواج من الكُتّاب والمثقفين. أما محمود الصرخي، فقد أبلغ إلى أتباعه الداخلين في طاعته أن الإمام المهدي ظهر أخيراً، وهو مقيم في منزله، لكن، لا يراه أحد غيره، فجاءت الجموع لتحتفل بالظهور. ثم أبلغ إليهم أن الامام المهدي خطب أخته، فهبّت الجموع، إياها، للمباركة، وكان بين هذه الجموع كثيرون مستعدون للانتحار، في سبيل العريس لو رغب في ذلك. وافتتح مقتدى الصدر ظهوره السياسي بقتل عبد المجيد الخوئي في 10/4/2003 بتسع عشرة طعنة خنجر، ولما استوى على الزعامة، وصار له أتباع مطيعون، منع استعمال الطاولات والكراسي ومكيفات الهواء في مكاتبه.
الآن، صار لدينا "بول بوت" عربي جديد في العراق، علاوة على دولة الخلافة وخليفة، وخلاف ذلك، مثل دولة للأكراد ودولة في جنوب السودان. لِمَ لا؟ لتكن دولة الخلافة إذاً! غير أن هذه الدولة لا قوام لها إلا تلك العشائر البدوية المهمّشة المنتشرة في الفيافي القاحلة بين دير الزور والأنبار. وهذه العشائر دخلت طاعة الخليفة أبو بكر البغدادي، وبايعته مثلما بايعت نوري المالكي، وقبله صدام حسين، وهي لم تبايع البغدادي إلا بعدما سيطرت "داعش" على المنطقة... إنها مهنة "الأرزقية" المعروفة في باديتي الشام والسماوة.
إن أَسوأ جار للمدينة هو البادية، حيث يسود فقه التغلّب. "وما الممالك إلا التغلّب والحكم بالقهر" (ابن خلدون). و"الولاية لا تتبع إلا الشوكة، ومَن اشتدّت وطأته، وجبت طاعته" (الغزالي). و"انتصارات داعش" التي نشهدها، اليوم، مؤقتة، بل أشنع من الهزائم. لكن، ثمة أمر إيجابي وحيد، في معمعان هذه المقتلة الجارية في العراق، هو أن فكرة الخلافة باتت مبتذلة ومرذولة ومرفوضة ومكروهة وكريهة، والداعون إليها صاروا مَعْيرة لكل كبير وصغير. والواضح، إلا لمَن له عينان ولا يرى، أو له أذنان ولا يسمع، أن ولاية الفقيه في العراق مستحيلة، والخلافة مستحيلة أيضاً، ومستحيلان لا يصنعان وطناً على الإطلاق. وبين الولاية والخلافة صار العراق (ومعه سورية وتوابعها) وليمة للثعالب.
* * *
قال داهش، يوماً، لأحد أصدقائه: "الناس تريد الهروب إلى الماضي، أو إلى العالم الآخر، والاتصال بالأرواح للخروج من كابوس الحياة. الصوت الذي يسمعونه من عالم الموتى هو صوتهم؛ صوت الموت الصادر من أعماقهم". لقد انتهى داهش صورةً في متحف الداهشة في نيويورك. وانتهى بول بوت مريضاً طريداً في أدغال كمبوديا، بعدما طرد سكان المدن إلى الأرياف، وقتل أربعة ملايين كمبودي. وقُتل أبو مصعب الزرقاوي في فيافي العراق. وسينتهي إبراهيم البدري، أو بول بوت العربي، في حفرة رملية مقطّع الأوصال جراء غارة جوية، أو دامياً بطعنات كثيرة على غرار عبد المجيد الخوئي، أو معمر القذافي، أو في قعر اليمّ على منوال صاحبه أسامة بن لادن... لقد انقطع حيلنا.