يقول السوسيولوجي العراقي الراحل، علي الوردي، في كتابه "وعّاظ السلاطين": "ويبدو لي أنّ هذا هو دأب الواعظين عندنا. فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون. ويصبّون جلّ اهتمامهم على الفقراء من الناس، فيبحثون عن زلّاتهم، وينغّصون عليهم عيشهم، وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة".
قبل خمسة وستين عاماً نُشر هذا الكتاب في العراق، ليتحدث عن الشرخ الذي يعيشه المجتمع ما بين مثل عليا ووقائع اجتماعية، فيتمسك البعض بتلك المثل قهراً ويحاول أن يسقطها على كلّ شيء، في انسلاخ كبير عن الواقع الاجتماعي. وبينما للبعض مصلحة واضحة في ذلك، إذ يستفيد من التمسك بما يوفر له الحظوة لدى السلطان، والقدرة على السيطرة على عقول العامة، فإنّ الأخيرين، حين يتحولون إلى واعظين بدورهم، لا مصلحة لديهم في ذلك، إلّا إن كان التمسك بقيم غير واقعية يجعلهم "آمنين" عن الخوض في الصراع الاجتماعي بحلوه ومرّه، أي بحسناته وسيئاته.
هم لا يريدون أن يعرفوا أنّ المجتمع في حراكه يحمل الخير والشرّ معاً، ولم يشهد العالم حضارة نقية في خيرها أو نقية في شرها. هو نموذج لا يعيش إلّا في عقول فلاسفة يبتكرون عالماً من فكرة، وهو عالم أثبت التاريخ عدم إمكانية الوصول إليه، وعلى هذا الأساس يبدو من الصعب جداً الوصول إلى مثل هذا العالم في المستقبل - من دون أن نحكم باستحالة ذلك. وهو نموذج لا يعيش إلّا في مخيلات رجال دين ينشدون الفضيلة ويرومون الوصول إلى ذلك "النقاء" الأول، وإن أعادوا المجتمع معهم ألفاً وألفين وسبعة آلاف عام إلى الوراء. وكذلك يعيش في ممارسات أفراد مقلّدين لا يكلّون عن الوعظ المثالي ذاك.
مناسبة هذا الاقتباس، ويل وثبور وتهديد بعظائم الأمور، نالت من مواطن لبناني ذكرت الأنباء أنّه أحرق نفسه ومات، لأسباب معيشية، وربما لجملة من الأسباب المتداخلة. وبين التعاطف الكثيف معه ومع قضيته التي تعكس أوضاع كثيرين في لبنان وغيره، ممن يلاحقون لقمة العيش وتُمنع عنهم حقوقهم في الأساسيات قبل الكماليات، ساء البعض أنّه أقدم على الانتحار.
هذا البعض يحمل كثيراً من الوعظ الآتي من أعماق التراث، فيؤوّل ويجتهد، ليصنف ويلعن ويُدخل من شاء إلى الجنة ومن شاء إلى النار. وقبل ذلك، لدى هؤلاء الوعّاظ كثير من الفخر بأنفسهم، مكّنتهم منه خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، فينظّرون ويعظون انطلاقاً من ذواتهم؛ تلك المكافحة والناجحة والمؤمنة والتقية والقدوة للأبناء والأحفاد.
يعلن هؤلاء أنّه لم يكن يجدر بذلك المواطن أن يقدم على ما أقدم عليه، لكنّهم لا يقدمون له الحلول لكلّ ما يعانيه من مشاكل. هم "يبحثون عن زلّات الفقراء"... وهذا دأبهم، كما قال الوردي، قبل كلّ تلك السنوات.