تعتبر مؤلفاته إضافة لفكر النهضة الذي يعتبر مالك بن نبي من أهم رواده، تمكن من حمل خطاب النهضة إلى فئة أوسع من الفئة التي توجه لها مالك بن نبي بسبب لغته المميزة وبيانه الواضح، إضافة إلى أن اعتماده على التأصيل القرآني للنهضة جعل من أفكاره أكثر قبولاً.
*عُرفت ككاتب إسلامي، وجمعت بين التجديد في طرح الموضوعات والأسلوب الأدبي. وقبل ذلك أنت طبيب أسنان.. حدثنا عن مخططات وأجواء البدايات.
مثل كل البدايات، تبدأ الأمور من محطة أنك لم تعد قادرا على الصمت، أنك لو بقيت صامتا ستنفجر، تنتقل بعدها إلى محطة الهمس، تكتب لنفسك أولا، ولأدراجك الخفية، وربما للمقربين من حولك، الكثيرون يبقون في هذه المحطة ولا يغادرونها للأسف-لأسباب مختلفة ومفهومة-، المحطة التالية هي ترك الهمس، والكلام بصوت مرتفع، أو الصراخ أحيانا. تريد الأمر على نحو أكثر مباشرة، وجدت عندي الحاجة لأن أقول شيئا مختلفا.. ووجدت حاجة عند بعضهم لسماع شيء مختلف. التحمت الحاجتان.. فكانت شرارة أضاءت لي.. فكتبت.
*والدكم مؤرخ وقاض.. ماذا عن التاريخ في حياتك؟ هل تهرب إليه فيما تكتب؟ وكيف يمكننا مواجهة الحاضر بالقلم والتاريخ؟
ولماذا نهرب إليه؟ نحن لا نزال عالقين فيه. أغلب مشاكلنا تعود – في رأيي- إلى أننا لم نخرج بعد من تاريخنا ولا نزال نعيش فيه بطريقة مرَضية وسلبية تماما. أعتقد شخصيا أن مراجعة هذا التاريخ ستجعل علاقتنا به صحية، وتساهم في تعبيد الطريق إلى المستقبل. لكن نسف هذا التاريخ (كما يطالب بعضهم) ليس أقل سوءا من العيش فيه بطريقة مرَضية.
*تنوعت كتابتك بين البحث العلمي والرواية والرسالة الأدبية، بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات.. لمن يقرأ العمري؟ ومن هو ملهم قلمك؟
اقرأ للجميع بلا استثناء. على الأقل من باب الاطلاع، وليس سرا أن تأثري الأساسي (من ناحية الأسلوب على الأقل) كان بكُتاب لا ينتمون للتيار الإسلامي، وترك هذا أثرا على قلمي بالتأكيد.
أحببت محفوظ وجبرا ومنيف، لكن تأثري الأكبر كان بالتأكيد بغادة السمان التي أعتبر أنها صاحب أجمل قلم عربي معاصر. أحببت أيضا فرجينيا وولف، ماركيز، كنفاني وآخرون. وفكريا كان مالك بن نبي هو أكثر من لفت انتباهي.
وملهمي هو رجل الشارع، الإنسان العادي، هذا هو الملهم بالنسبة لي وبلا منازع، يلهمني دوما أن أحاول تغييره، أن أصل له.. أن أوصل له أفكاري.. أحمله على ظهري أينما ذهبت، وأعتبره أحيانا نجاحي الأكبر، وفي أحيان أخرى فشلي الكبير، ويبقى ملهمي ومستفزي وهدفي في كل الأحوال.
*"البوصلة القرآنية إبحار مختلف بحثا عن الخارطة المفقودة" هو كتابك الأول، أحدث ردة فعل مختلفة بين الرفض والهجوم وبين الإعجاب والقبول، على ماذا يعتمد العمري في استنباطاته للمفاهيم من القرآن؟
أعتمد على قراءة القرآن بالقرآن، أي إجراء استقراء قرآني شامل، وقراءة الموضوع الذي أبحثه من كل زوايا الآيات التي تحدثت عنه، والرجوع للجذر اللغوي للكلمات في "لسان العرب"، ومن ثم ربط أجزاء الصورة الناتجة.
*أدبيا، فكريا، ثقافيا.. أين تجد موقع العرب في ذلك؟ وماذا عن واقع النص المكتوب عربياً؟
في نفس الموقع الذي هم فيه في مختلف المجالات!
*اتخذت موقفا مبكرا مؤيدا للثورات العربية، ماهي الثورة في روح وفكر العمري؟ وهل تؤيدها بانتمائك الديني؟
بالنسبة لي الكتابة بحد ذاتها هي فعل ثورة بطريقة ما، لذا فموقفي المبكر كان امتدادا لمواقفي السابقة أصلا، ولا أفهم كيف يمكن لأي كائن أن يكون ضد المطالبة بحياة أفضل. أتحدث هنا عن موقف مبكر قبل أن يتم تغيير مسار هذه الثورات وأدلجتها واختطافها ومن ثم المآلات التي وصلت لها.
لكن يستوقفني جدا سؤالك (هل تؤيدها بانتمائك الديني؟).. للأسف لقد وصلنا إلى هنا، إلى هذا السؤال..
لكن ماذا تقصد حقا بانتمائي الديني؟ إذا كنت تقصد الانتماء بالمعنى التقليدي المباشر للكلمة، فالجواب قطعا لا، أما إن كنت تقصد بمعنى القيم الشاملة التي أؤمن بها، فالجواب نعم، وأعتقد أن هذا هو جواب الكثيرين من المنتمين لأديان أخرى.
*ماذا عن ثورة القلم.. أي دور للمثقفين والكتاب في حل مشاكل البلاد العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
حاليا لا يوجد أي دور لهم، لأن لا أحد مقتنع بوجود دور لهم أصلا، هم حاليا (كيس ملاكمة) لا أكثر ولا أقل. الكل يفرغ فيهم همومه وإحباطاته ويسألهم مقرعا: ماذا فعلتم من أجل تغيير الواقع؟.. ونفس من يسألهم غير مقتنع بهم ولن يسمح لهم بأداء أي دور فيما لو حاول المثقفون والكتاب ذلك. أما أنهم يحاولون ذلك، فهم يحاولون بالتأكيد.
*هل يندم الكاتب على ما كتب أحيانا؟ وما أسباب ذلك؟ وهل سبق لك أن كتبت شيئا وندمت عليه؟
لم أندم على (كتاب) بالتأكيد! لكن هذا لا يعني أن الرضا متوفر لدي عن كل ما كتبته، دوما هناك السعي لما هو أفضل، ودوما أقول لو أن هذه الجملة قيلت على نحو أفضل، أو أكثر وضوحا.. الخ.
لكن هذا لا يعني أني لم أعرف الندم بالمطلق، هناك أشياء نتورط بها أحيانا (مجاملة) –خاصة في أول الدرب-، وهناك ثناء تقوله عن أشخاص توسمت فيهم الخير ذات يوم، ثم خذلوا أنفسهم قبل أن يخذلوك.
لا أتنصل من شيء، كنت صادقا يوم كتبت، لكن بيني وبين نفسي أقول: ليتني لم أفعل! وهناك أيضا أشياء نكتبها تحت ضغط ألم شخصي كبير، بعد فترة نرجع لها، فلا نتذكر أصلا سبب الألم أو مسببه! لكني لا أندم على هذا الجزء تحديدا إذا كانت الكتابة جميلة! العواطف تزول، الأبجدية (قد) تصمد.
*بين السياسة والفكر والأدب، ينتقد العمري ما يسميه المؤسسة الدينية التقليدية! كيف تنظر إلى واقعنا العربي إزاء التشعب؛ دينيا وفكريا وسياسيا؟
انتقادي للمؤسسة الدينية هو جزء من انتقادي للعقل الجمعي العربي -المسلم- حيث أعتبر أن هذه المؤسسة هي الراعي الرسمي للكثير من أمراض هذا العقل وسلبياته.
وأرى الواقع هو النتيجة الطبيعية لكل ما لم نوجهه من مفاهيم الماضي وسلبياته وتفاعلات هذا الماضي مع معطيات الواقع، ولا أرى خروجا سهلا من هذا الواقع، فالخروج يتطلب مواجهة جذرية شاملة لكل مسببات التخلف في هذا الواقع، وهو أمر لن يكون سهلا لأن للتخلف رعاته ودعاته والمستثمرين فيه في الداخل قبل الخارج.
*ما مفهوم فكرة النهضة لديك؟ وبأي جانب ثقافي هي مرتبطة؟ وكيف السبيل للنهوض فكريا بمجتمعاتنا العربية؟
للأسف مصطلح النهضة استهلك وابتذل كثيرا، حتى صار بعض مدربي دورات التنمية البشرية يستخدمونه، ناهيك عن استخدامه كشعار جماهيري جذاب لمصالح انتخابية سريعة الذوبان، شخصيا بت أتجنب المصطلح لكي أفصل ما أقدمه عن هذه النماذج، وصرت أميل إلى استخدام كلمة (قيام)، أو (نهوض)، كي أشدد على الفرق بين الاستخدام الشعاراتي الدوغمائي للكلمة وبين معناها كما أراه، أي كمشروع ثقافي بالدرجة الأولى، يستهدف إزالة الأفكار السلبية العميقة.
*ماذا عن التجديد العربي؛ الديني، الفكري، الثقافي، في فكر العمري، وما السبيل للوصول إليه؟
التجديد هو صنو النهوض والقيام، للأسف الكلمة أيضا استهلكت جدا ككل شيء له بريقه، وصار بعضهم يعامل التجديد كما لو كان نسخة (بي دي إف) من كتاب قديم، وبعضهم الآخر يعامله باعتباره التفلت من كل شيء.
بين هذا وذاك أفهم التجديد على أنه العودة إلى الثوابت الأساسية والبناء عليها من جديد، بمعزل عن كل بناء سابق بني في عصور أخرى ومتطلبات أخرى وظروف أخرى. التجديد ليس عملية ترميم كما يفهمه بعضهم، وليس عملية هدم شامل كما يريد بعض آخر.. بل هو إعادة بناء تستلزم الهدم في أحيان كثيرة.
*تدخل حاليا ولأول مرة مجال الإعلام المرئي في برنامج (لا نأسف على الإزعاج)، ما الفكرة من وراء البرنامج، لماذا الإعلام المرئي. ولماذا الآن؟
الفكرة وراء البرنامج هي نفسها وراء أي كتاب أصدرته. تقديم نظرة جديدة مختلفة لبعض المفاهيم السائدة. لماذا الإعلام المرئي؟ لأن الكتابة قد تكون (بالنسبة لي) هي الأسلوب الأفضل والأكثر وضوحا وصمودا، لكنها ليست الأسلوب الوحيد، وليست الأسلوب الأكثر انتشارا بالتأكيد. لماذا الآن؟ لأن الفرصة المناسبة لم تسنح من قبل.
*بطاقة تعريف:
أحمد خيري العمري؛ كاتب وطبيب أسنان عراقي، ولد في العاصمة العراقية بغداد عام 1970، ينتمي إلى الأسرة العمرية في الموصل التي يعود نسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب، والده مؤرخ وقاض عراقي معروف هو خيري العمري. تخرج "العمري" طبيب أسنان في جامعة بغداد عام 1993، وعرف ككاتب إسلامي عبر مؤلفات جمعت بين منحى تجديدي في طرح الموضوعات وأسلوب أدبي مميز. اختير عام 2010 ليكون الشخصية الفكرية التي تكرمها دار الفكر بدمشق في تقليدها السنوي، والذي سبق أن كُرم فيه أعلام مثل عبد الوهاب المسيري والبوطي والزحيلي.
(العراق)