خيانة التبّولة

08 يوليو 2016
منير العيد/ سورية
+ الخط -

تُعتبر التبولة واحدة من أشهر ما يقدّم على المائدة الشامية من الأطعمة، وهي خلطة خضار تُنتج طعما فريداً ناجماً عن قدرة التنوّع على أن يخلق وحدة مذاق يتّسم بانسجام عادل، وعذب، ولذيذ مؤلّف من البقدونس والبندورة والبصل الأخضر والبرغل والزيت والنعنع والليمون الحامض والملح. وسوف تحتفظ كل وحدة من هذه الوحدات المشاركة في صنع الطعم الجديد، المختلف عن كل واحدة منها، بخواصها، وفوائدها، ولونها، أي باستقلالها "الثقافي".

وقد كان المأمول والمشتهى أن يُبدي الشعب، الذي استطاع أن يبتكر هذا الخليط المنسجم والمدروس بصفات إنسانية تؤهّله لأن يكون قادرًا على حساب الطرائق الأكثر إنسانية، وأخلاقية، للعيش مع غيره ممن قد يختلف معهم في الثقافة، أو الدين، أو القومية، أو العادات، أو غيرها.

ومع ذلك، فثمّة من يزعم أن وحدة الطعام المشترك، لم تترك أثراً عميقاً في روح "الشعب" كي يحاول أن يبتكر نمط عيش مشترك، يحاكي من حيث الجوهر، سعادة الخضار المتنوعة في وحدة التبولة.

هل تقع المسؤولية على الشعب، أي على المتنوّع والمختلف الذي يقال إنه "يرفض" أن يتشكل، أو يعيد تشكيل نفسه في وحدات أكبر؟ أم تقع المسؤولية على أصحاب المصالح الفئوية، والطائفية، والسياسية، أو على الدول الأخرى التي ترعى الاقتتال، وتسانده؟

حتى الآن تبدو الأصوات التي تدعم براءة "الشعب" من حروب الداخل، ذات تأثير أخف، بينما يعلو صوت دعاة الطائفية، والقبلية، والعشائرية، والتنميط الاجتماعي الذي يضع الآخر كلّه في سلة العدو. وفي كل الأحوال فإنه لم يثبت قط أن العنف والاقتتال الداخليين سمتان تكوينيّتان في الجسد، أو الروح الشامية، أو العربية.

وكما كان بوسع أي شخص أن يعكّر أي طعام، ويخرّب مذاقه أو طعمه، عبر التلاعب بالمكونات، أو إفساد أحدها، فقد كان الناس هنا عرضة لأزمات متتالية، وحروب وتوترات يسعى مشعلوها وقادتها للسيطرة من خلالها على المجال العام، الذي يجب أن يبقى خارج وحدة التنوع، من جهة، ومشتبكاً بحربه الداخلية المديدة.

والمؤكد هو أن القوى المسيطرة في المجال العربي، سواء كانت سياسية، في السلطة، أو في المعارضة، دينية، أو عشائرية، أو أسرية وعائلية، وجدت أن من مصلحتها أن تقوّي "الاختلاف" وتمنحه جرعات تحسينية مستدامة، مقابل هجاء الوحدة، وتدمير الأسس الممكنة لاشتراك الناس في عيش متاح بأوسع معاني الكلمة.

تسأل لورا نادر، في كتابها "الثقافة والكرامة": "من هو العنيف. الشعب أم تاجر السلاح؟"، إذ لا يستخدم الناس "العنيفون" في سورية العصي، أو الحجارة، بل الأسلحة التي تزودهم بها دول يدعي قادتها أنهم حماة السلام. أميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وتحرضهم على ذلك السلطة، وأمراء الحرب.

يردّد الناس في الشرق جملة مجازية تشير إلى قوة العلاقة المبنية على المشاركة في العيش، فيقولون إن الروابط بينهم تزداد قوة، ومتانة، وإنسانية، حين يتناول أحدهم الخبز والملح من طبق الآخر. وفيما لا يزال المتحاربون يصنعون التبولة وفق المشترك المتنوع ذاته، فإن الكثيرين منهم ما فتئوا يخوضون حتى الركب في خيانة الخبز والملح والتبولة.

المساهمون