خواطر ملخفنة عن البطيخ والقدر

24 اغسطس 2020
+ الخط -

وقفت أمام ركن البطيخ في السوبر ماركت الشاسع، مبحلقاً في كميات البطيخ الكبيرة التي تم رصها على طاولة خشبية، ومحاولاً تخير البطيخة التي ستثبت أنني لست فاشلاً على الدوام في تنقية البطيخ، لكن عملية الاختيار طالت أكثر من اللازم بفعل تداعيات ذكرياتي مع البطيخ.

لأسباب لها علاقة بالوزن والحجم والسعر والشيلة، نتعامل مع البطيخ بجدية أكثر من غيره من النباتات المقفولة القابلة للأكل، كنت سأقول "أكثر من الفواكه المقفولة"، لكنني خفت أن يطلع لي كالزنبوق عشرون عالم نبات، لينبهوني إلى أنّ البطيخ من الخضروات وليس من الفواكه، وحسماً للجدل، راجعت الحافظ "غوغل" فاتضح أنّ البطيخ من الخضروات لكنه عاش حياته محسوباً على الفاكهة، وهو سبب إضافي لمحبته والتعاطف معه، القصد يعني أننا عادة لا نغضب بنفس القدر، لو خاب أملنا بعد فتح ثمرة كانتالوب، خفت أن أقول "شمّامة" فيطلع لي من يقول إنّ وصف الكانتالوب بأنه شمّام أمر غير دقيق علمياً، أو لا يليق احتراماً لاختيارات الشمامين.

القصد يعني أنّ موضوع البطيخ اكتسب في ثقافتنا أبعاداً أكبر منه، فأصبحنا نتوارث عن أجدادنا قولهم إنّ الجواز مثل البطيخ، لا يمكن أن تدرك كنهه إلا بعد أن تتورط في تجربته، وبالطبع لم أقل "إلا بعد أن تفتح وتدوق"، لأن هذه العبارة الغليظة التي كانت على أيامهم تجلب الكركعة بوصفها من أطرف ما يُقال، صارت على أيامنا تستوجب "البلوك والريبورت"، القصد يعني أن الكلام السلس عن البطيخ صار صعباً كالعثور على بطيخة حلوة ومرمِّلة تجيب هم شيلها وسعرها، وربما تكون هذه فرصة للتأكد من صلاحية كلمة "مرمِّلة" للاستخدام، وأنها لا تجرح شعور أحد.

كان لي صديق تافه، لم يكن يمتلك مهارة حقيقية في الحياة سوى قدرته على اختيار البطيخة الحلوة، وكان يدعي أنه ورث تلك المهارة من أبيه الذي كان شيخ طريقة في فتح البطيخ، لدرجة أن البطيخة كانت تكلمه وتقول له "افتحني تجد ما يسرك"، أو "سيبني وخد اللي جنبي"، وإذا تصورت أنني أهزل فأنت لم تصل بعد إلى الدرجة الكافية في إدراك تفاهة الإنسان، ولذلك لن تصدق أن هناك صديقاً أتفه، كان مثل حالاتي من المبتلين بسوء البطيخ، استفزه تبجح صديقنا بقدراته كعارف بالبطيخ، فظل يصطحبه على مدى صيف كامل إلى عربات البطيخ ليتحقق من قدراته، وحين لمس تلك القدرات بنفسه، حاول التهوين من شأنها، بالبحث عن أسباب موضوعية لها، طالباً من صديقي أن ينقل له بعضاً من معرفته بالبطيخ، والتي أصبحت تراها الآن في فيديوهات تتحدث عن "تون" الصوت الذي تسمعه حين تخبط على البطيخة، ولون قشرتها ودرجة انسيابيتها، وكل هذا الهراء الذي يحاول به بنو البشر إضفاء طابع منطقي على قدرية البطيخ، وكونه في النهاية رزقاً جعله الله "للموعودين مش للحسّابين".

البطيخة التي اشتريتها بعد أن طاف بخاطري كل هذا الهذر، طلعت قرعة وماسخة كالعادة، ولست أشكو والله، لأن البطيخ ليس على قائمة أولوياتي فيما يتعلق بالحظ والتوفيق، فماذا يفيد الإنسان لو كان كل شيء في حياته ماسخاً إلا البطيخ؟

في أول مرة اشتريت فيها بطيخة بعد زواجي، سألتني زوجتي: "هتفتحها على وش مين؟"، فلم أفهم السؤال في البداية، وتخيّلت أنها ترغب في أن أفتح البطيخة برأسي جلباً للحظ، لكنها قالت لي إن والدها عودهم في كل مرة يشتري فيها بطيخة على ذلك السؤال الفولكلوري، ليختاروا أحد أفراد الأسرة لكي يتم فتح البطيخة على شرف وجهه، فينال التحية إن جاءت حلوة، وينال البستفة والتريقة إن جاءت قرعة أو ماسخة، ولأنني أعرف تعاسة حظي مع كل ما اشتريته من بطيخ طيلة حياتي، قررت تأمين نفسي، وقلت إنني سأفتحها "على وشي" لأثبت لها براعتي في اختيار البطيخ الذي تعلمت أسراره من أحد أصدقائي التافهين، وحسناً فعلت، فقد كانت أبشع بطيخة يمكن أن تراها في حياتك، ولم يكن ينقصها إلا أن يخرج منها ثعبان أقرع، وزوجتي التي لامتني قبل فتح البطيخة لأنني بدّيت نفسي عليها، انهالت علي تريقة كما يقتضي الطقس العائلي، لتتكرر تريقتها مع كل اختيار فاشل للبطيخ، فينتقل ملف البطيخ إلى يدها طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، وأشهد أنها أحسنت إدارته، بدليل أنني حين توليته ذات مرة خلال سفرها أصبت بتسمم حاد وكدت أروح فيها، وكتبت يومها مقالاً ستجده في كتاب (ضحك مجروح) افتتحته بقولي: "يا سبحان الله، معقولة؟ أنا الذي ما في جسدي إلا موضع لسندوتش كبدة كلاب، أو أثر لسجق مشبوه النسب، أو طعنة من سيخ لحم تغير طعمه ولونه، أو رشفة من تمر هندي آسن، أرقد على فراشي كما يرقد البعير إثر أكلة بطيخ. فلا نامت أعين الفكهانية".

منذ أن اجتاح "كوفيد 19" الكون، خرجت مسؤولية اختيار البطيخ من يدي ويد زوجتي، وأصبح عمال التوصيل التابعون لتطبيق التسوق الإلكتروني يختارون لنا البطيخ، فمرة يصيبون ومرة أو مرتين يخيبون، وحين يطلب مني "الآب" أن أقيّم أداءهم، أستحرم فكرة تقليل النجوم الخمسة التي أعطيها لهم كل مرة، لأنهم أحضروا لي بطيخة ماسخة، فأستعوض الله في البطيخة التي راحت فلوسها أونطة وأمدحهم لدى "الآب"، وحين تأتي البطيخة التالية زي العسل، أتعامل معها كمكافأة كونية على ضبط النفس والتضامن الإنساني المطلوب في سفاسف الأمور قبل عظائمها.

حين جئت إلى نيويورك قبل سنوات، اكتشفت أن جميع محلات البقالة تبيع البطيخ مفتوحاً بعد تقسيمه وتغليفه، وهو ما يعفيك كمحب للبطيخ من المقالب التي تفسد شوقك إليه، لكنك في المقابل تدفع في ربع البطيخة المفتوح سعراً يوازي سعر البطيخة المقفولة، كأنك تدفع ضريبة اللعب في المضمون، وتفقد في الوقت نفسه بهجة سفح كميات أكبر من البطيخ، مصحوباً بالجبنة الحادقة والعيش المحمص كأقرب بديل متاح للعيش "المفقّع"، لكن ذلك أرحم من شراء تلك العلب التي يضعون فيها قطعاً صغيرة من البطيخ ليأكلها المستعجلون بالشوكة، وكأن أكل البطيخ يمكن أن يكون له لزمة إذا لم أن تملأ قطعة البطيخ فمك، فيصدر عن قضمها ذلك الصوت المبهج الذي لا يقترن بأي فاكهة أخرى غير البطيخ، وتترحم على أيام الصبا، التي كنت تسفح فيها البطيخ وأنت ترتدي الفانلة الحمالات، لكي لا يغرق ماؤه ملابسك، ويجيب لك الكلام من ست الكل التي قطم الغسيل ظهرها، ثم تشعر بالسعادة لأنك ساهمت في تقديم صورة سينمائية مشرقة لكيف ينبغي أن يؤكل البطيخ في فيلم (وش إجرام) الذي ألفته وأخرجه وائل إحسان، بذمتك يعني هل يؤكل البطيخ إلا كما كان يأكله هنيدي وسعيد طرابيك ولبلبة؟ لكنه الغزو الفكري قاتله الله، الذي جعلنا كأمة مهزومة نفرح بفيديوهات تقطيع البطيخ إلى مكعبات غير قابلة للهط والسفح.

بمناسبة علاقة السينما بالبطيخ، كانت عملية اصطحاب البطيخة إلى المنزل قد أثارت اهتمام مخرج مغرم بالتفاصيل مثل محمد خان، فصنع عنها فيلماً قصيراً لطيفاً، لكن البطيخ ظل مظلوماً في الدراما السينمائية والتلفزيونية مقارنة بغيره من الفواكه، وهو ظلم امتد إلى الغناء والشعر، فلم يجد البطيخ برغم مركزيته في حياتنا، خصوصاً في الصيف، من يغني له مثل غيره من الفواكه، ربما لأن أي أغنية ستقوم بالتغزل بالبطيخ، ستحيل بالضرورة إلى معانٍ سافلة تثير حفيظة الرقابة بأشكالها المتعددة.

لذلك لم يكن غريباً أن يقتصر الغناء للبطيخ على الأطفال، حيث وجدت على "يوتيوب" أغنية باللهجة الشامية للأطفال يقول بطلها (توم المتكلم): "أنا لو ألف الدنيا أو أطلع عالمريخ، أبداً ما راح ألاقي أطعم من البطيخ"، في السياق نفسه نبهني الحافظ "غوغل" إلى أنّ الشاعرة عبير عبد العزيز أصدرت ديواناً للناشئة بعنوان (ما قبل البطيخ) رسمه الصديق الجميل سمير عبد الغني، جاء في عناوين قصائده "من المنتصف، بين يديه، حقل بطي، في الداخل، ثلاث حكايات عن الشعر والبطيخ، صوت من داخل بطيخة"، وأهدته الشاعرة "إلى من أخرجني من البطيخة عندما أدارها سبع مرات"، وكنت سأشتري الديوان الذي بدا واعداً لبناتي، لولا أن إحداهن لا تحب البطيخ، والثانية لا تحب الشعر.

حين بحثت عن قصائد أخرى عن البطيخ ظهرت لي مقالة بعنوان "البطيخ في الشعر الفلسطيني"، فاستبشرت بها خيراً، لكني لم أجد سوى قصيدة حلمنتيشية للشاعر سمير سليمان أبو زيد يتغزل فيها ببطيخ فلسطين في أبيات ختمها بقوله: 
يشفي ابن آدمٍ من حصوٍ ومن رملٍ 
والضغط ينزلُ بعد الأكل في الحينِ
ربيع أمتنا البطيخ والعنبِ 
قال الرسول وهذا القول يكفيني

وهو قول لا أدري من أين أتى به الشاعر، لأنه ليس قولاً مشهوراً، وإلا لكنا رأيناه على كل عربات البطيخ في بلادنا، تقليداً لمحلات عصير القصب التي تضع في صدارتها لافتة (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً)، لكنني أحببت أن الشاعر قام في أبياته بتعديد المناطق الفلسطينية التي تشتهر بإنتاج البطيخ، وفكرت في غرابة الدنيا التي تعامل الشعراء والفنانين بمزاج يشبه مزاجها في تقسيم حلاوة البطيخ بين الناس، فلو كان محمود درويش قد كتب قصيدة عن البطيخ، لغناها مارسيل خليفة وأضيفت إليها موسيقى الإخوة جبران، واستشهد بها كل من هبّ ودبّ مصحوبة بصورته مع البطيخة التي اشترتها له أمه، لكن محمود درويش كان فيما يبدو يحب الفاكهة صغيرة الحجم، ولذلك قال مثلاً: "امرأة تدخل الأربعين بكامل مُشمُشها"، مع أنه كان سيكون أوقع وأجمل لو قال "بكامل بطيخها".

القصد يعني، أنّ البطيخة التي اشتريتها بعد أن طاف بخاطري كل هذا الهذر، طلعت قرعة وماسخة كالعادة، ولست أشكو والله، لأن البطيخ ليس على قائمة أولوياتي فيما يتعلق بالحظ والتوفيق، فماذا يفيد الإنسان لو كان كل شيء في حياته ماسخاً إلا البطيخ؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.