خطّة طرابلس الأمنيّة في لبنان: المطلوبون يجولون في الأسواق

طرابلس

نادر فوز

avata
نادر فوز
04 ابريل 2014
026E90ED-9A64-4FDC-83A5-74A4E4BF8EEE
+ الخط -

فرضت الدولة اللبنانية خطتها الأمنية على طرابلس اللبنانية، فدخلت المدينة نعيم الهدوء والسلام. عادت الحياة إلى الطرابلسيين وهم يتابعون انتشار الجيش اللبناني بعناصره وآلياته، ويراقبون انسحاب مئات المسلحين من الشوارع. ينتظرون مداهمات عسكرية لم تحصل بعد، وقد لا تحصل. الناس هنا يشكرون الدولة وينتظرون المزيد منها. عادوا قبل ساعات إلى أعمالهم ومدارسهم وأحيائهم، من دون أن يهابوا سيطرة الميليشيات عليها، ومن دون أن يخافوا من أن تهجّرهم منها أصوات القنابل. انتهت فصول الاشتباكات، ولو مرحلياً، مع دخول الجيش. يأملون أن تكون هذه الخطة أكثر من وقف لإطلاق النار بين جولة اشتباكات وأخرى، بل هدنة يسعون إلى أنّ تتحوّل إلى مصالحة شعبية يقودها جميع المعنيين: قوى سياسية، هيئات إسلامية، رجال دين وعائلات متضررة.

استيقظ أهالي طرابلس فوجدوا أنّ الهدوء حكم مدينتهم، فرحوا، لكن صورة الحرب لا تزال في أذهانهم. يخافون من عودتها، فهم يعرفون أنّ الدولة لم تقم بواجبها كاملاً، إذ تحاشت توقيف كل المطلوبين بإخلال الأمن وتشكيل محاور القتال.

كل مَن في طرابلس يدرك هذا الواقع. يُدرك الجميع أنّ معالجة الأمور بهذه السطحية لا تلغي أزمة "شارع سوريا"، الفاصل بين منطقة جبل محسن (ذات الأكثريّة العلوية المؤيدة للنظام السوري)، وباب التبانة (ذات الأكثريّة السنية المؤيدة للمعارضة السورية). بين هاتين المنطقتين، عشرات المطلوبين للقضاء، عمّمت الدولة أسماءهم قبل بدء تطبيق الخطة، فتواروا عن الأنظار، ما يدفع عدداً من المسؤولين السياسيين في طرابلس إلى القول إنّ "الغطاء السياسي قد رُفع عن هؤلاء، إلا أنّ أمر ضربهم وسوقهم إلى العدالة لم يصدر بعد". تتجنّب القوى الأمنية محاصرة المطلوبين وإلقاء القبض عليهم. تمرّ آليات الجيش والعسكر بالقرب من مناطق نفوذ هؤلاء، كأنّ لا مذكرات قضائية بحقهم، وكأنهم غير مطلوبين بجرم القتل وتعكير الأمن.

فتح التجار في "شارع سوريا" محالهم وعادت حركة السير. ينتشر الجيش عند كل زاوية وفي كل مدخل زاروب فيه يؤدّي إلى الجبل أو التبانة. تبدو الدولة قوية. تفرض شرعيّتها وقانونها. لكن داخل الزواريب لا تزال الأمور على حالها: زعماء الأحياء موجودون، يتجوّلون بحرية مطلقة، يجمعون الناس حولهم ويمارسون عاداتهم اليومية، لكن من دون سلاح.


علوكة في التبانة

يجلس زياد علوكة في "الحارة البرانية" في باب التبانة، بين أنصاره كالمعتاد. هو مطلوب للدولة بصفته قائد مجموعة مسلحة، أو "قائد محور"، كما بات معروفاً. اسمه وارد في لوائح المطلوبين، لكنه لم يتوارَ عن الأنظار ولم يترك منطقته ويُخلها للدولة. الأخيرة لم تتّخذ أي إجراءً بحقه. تراه يجلس بين أنصاره وإلى جانبه النارجيلة. يضحك، يبتسم، يناقش، ويفعل ما يحلو له بكل حرية. هو يشعر بالحماية لكون "الأمن بالتراضي والدولة تتجنّب الدم ونحن كذلك". لا يأبه لتلك المذكرات التي يعتبرها "قضائية وسياسية"، وينتقد الصفقة التي عقدتها قوى 8 آذار و14 آذار "التي اتّفقت في ما بينها علينا، بعدما استخدمتنا". لم يخرج علّوكة من "الحارة البرانيّة"، ولا يريد ذلك، كما يقول، إذ نصّبه أكثر من مئتي شاب في هذا الحيّ قائداً لهم، وأصبح مسؤولاً عنهم وعن لقمة عيشهم.

على وقع أصوات مرور شاحنات الجيش، يتابع علوكة حديثه لـ"العربي الجديد"، فيقول إنّ "باب التبانة لم ولن تسلّم سلاحها قبل أن تعود الدولة إلى موقعها وتحكم وفق القانون". وهذا الأمر لا يتمّ إلا بإنهاء سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة وقرارها، بحسب الرجل. ويرى علوكة نفسه مدافعاً عن نفسه "وعن أهل المنطقة وأهل السنة"، ويضيف: "يعتبرون حملنا للسلاح جريمة، أما نحن فلنا الشرف بكوننا نقاتل حزب الله الذي يرتكب المجازر بحق أهلنا في لبنان وسوريا".

يُجمع "قادة محاور التبانة" على هذا الأمر، فيؤمّنون الاستمرارية لجماعتهم، ومن ثم لهذه الحرب الصغيرة في طرابلس. أما تسليم السلاح فلا يكون إلا وفقاً لمشروع رسمي يبدأ بمحاكمة المسؤولين عن تفجيري مسجدي التقوى والسلام (أغسطس/ آب 2013)، وبالتالي "اقتلاع رفعت علي عيد"، وهو الأمين العام في الحزب العربي الديموقراطي، الذي يحكم قبضته على جبل محسن، والمتهم بالتفجيرين، ومن ثم يمكن البدء بالمطالبة بتسوية أوضاع المطلوبين وتأمين الوظائف وإقامة المشاريع الإنمائية في المنطقة. عند تنفيذ هذه المطالب "سأكون مَن أسلّم نفسي للدولة، وأول مَن يدعوها إلى وضع حدّ لتفلّت السلاح"، حسب قول علوكة، وإلى حين تحقيق ذلك، لا يسع "قائد المحور" سوى القول إنّ "الخطة الأمنية ليست إلا break (فترة راحة)".

يثير كلام علوكة وزملائه الكثير من التعليقات، باعتباره "لا يساهم إلا في إضافة الأجواء السلبية على وضع الخطة"، بحسب ما يقول عدد من رجال الدين في المدينة. تمكّن "العربي الجديد" من زيارة علوكة والدخول إلى معقله، كما يمكن لأي صحافي أو أي شخص أن يدخل إلى أرض "قادة المحاور" في التبانة، باستثناء الدولة، التي لا تريد ذلك. هذه الحقيقة ليست خفيّة على أبناء طرابلس. يعرف الجميع أنّ السلاح لم يُصادَر، والمخازن لم تُنبش. وبحسب البيانات الصادرة عن القوى الأمنية، تمّ اعتقال عشرات الأشخاص فقط، ومصادرة أعتدة عسكرية، لا أكثر.


التزام في جبل محسن

التطبيق الصوري لهذه الخطة حصل في باب التبانة كما في جبل محسن. ففي حصن الحزب العربي الديموقراطي، يؤكد المسؤولون أنّ عيد لم يخرج من المنطقة، ما يشكّل أيضاً استفزازاً لأبناء التبانة وللقوى الأمنية على حدّ سواء. يؤكد أبناء "الجبل" على التمسّك بخيار الدولة ومؤسساتها الأمنية، في ظلّ استمرار الجيش في أعمال الدهم والمراقبة. وفي هذا الإطار، تشير معلومات لـ"العربي الجديد" إلى أنّ القوى الأمنية أبلغت قادةً في الحزب العربي الديموقراطي عدم الاستجابة لأي طلب بالظهور الإعلامي، تفادياً لتوتير الأوضاع وتهديد السعي إلى إحلال الهدوء. وفي هذا السياق، تؤكد مصادر أمنية أنّ "عيد انتقل من جبل محسن إلى منطقة زغرتا (شمالي لبنان)، بعدما تنقل بين عكار وبيروت"، في ظل ترجيح هذه المصادر أن يكون "عيد قد قوبل بقلّة اهتمام من قبل حلفائه، وتحديداً حزب الله".


الخطة "ب"

في مقابل كل هذا "التبخيس" بالخطة الأمنية، تتحدث بعض القيادات الطرابلسية عن وجود "لوائح خفيّة للمطلوبين". وفي هذا السياق، تقول المعلومات إنّ الجيش والقوى الأمنية صبّوا الجهد على ملف "الأصوليين والتكفيريين"، فتركوا "أبناء المحاور بين الجبل والتبانة، وعملوا بشكل خفّي على توقيف عدد من المطلوبين الخطرين". وعلم "العربي الجديد" أنه تم توقيف شخص من آل خضر (انتقل قبل أيام من طرابلس إلى حلبا في عكار حيث اعتُقل)، وآخر من آل عتر (في منطقة باب الحديد الطرابلسية)، وهما شخصان "قريبان فكرياً من تنظيمي القاعدة وداعش".


المسار السياسي

تقف القوى السياسية إلى جانب هذه الخطة الأمنية وتدعمها عبر الإعلام ومن خلال ضبط الشارع والمؤيدين. كما تعلن جميع القوى في طرابلس تأييدها دخول أجهزة الدولة إلى المدينة، بدءاً من تيار المستقبل، وصولاً إلى الرئيس نجيب ميقاتي، مروراً بكل القيادات المحلية. وتضع بعض هذه القيادات "الخطوة الأمنية في إطار سياسي عام حدّده كل من حزب الله وتيار المستقبل". انطلق هذا المسار بتنفيذ خطة عرسال الأمنية ويتابع اليوم في طرابلس "على ان يجري استكماله لاحقاً في بعض مناطق البقاع، حيث على حزب الله العمل على ضبط بعض الملفات ورفع الغطاء عن بعض المطلوبين".
يأتي هذا التكامل بين الحزب والمستقبل نتيجة اقتناع الطرفين بضرورة ضبط هذه الشوارع المتفلّتة أمنياً؛ فالأول يبحث عن "تنظيف الساحة السنية من أجواء الإرهاب، وإبعادها عن واقع تحوّلها إلى بيئة حاضنة للسيارات المفخخة والتكفيريين". أما تيار المستقبل، فأدرك مسؤولوه أنّ الشارع السنيّ بات ممسوكاً من قبل مجموعة من رجال الدين، وتحديداً من قبل "هيئة العلماء المسلمين". ويعمل "المستقبل" اليوم على استعادة هذا الجمهور الذي انجرّ في أكثر من مناسبة وراء تحركات ونشاطات نظّمها مشايخ من طرابلس والبقاع. في هذا الإطار، يمكن وضع بعض القرارات التي اتّخذتها قيادة "المستقبل"، التي، بحسب أحد المطلعين، "طلبت من دار الإفتاء في طرابلس أسماء بعض رجال الدين لتقديم الدعم المالي لهم ومكافأتهم على مساعدتهم في ضبط الأوضاع"، مع العلم أنّ التيار أعاد تشكيل ماكينة "ضخ المال" في المدينة، من خلال فتح أبواب مراكزه أمام الناس، لبدء تسجيل طلبات التبرعات والإعانات.

ينتظر الطرابلسيون مصير هذه الخطة الأمنية. هم يدعون بعضهم بعضاً إلى التفاؤل، لكن في الوقت نفسه يحتفظون لأنفسهم بالخوف والقلق. قد تكون عودة التجار والناس إلى شوارعهم من أولى التداعيات الإيجابية لهذه الخطة، إلا أنّ أموراً إيجابية أخرى يمكن تسجيلها، من بينها تأثر أسعار بيع الأسلحة. ففي غضون ساعات، انخفض سعر رشاش من نوع "كلاشنيكوف" من 1500 دولار أميركي، إلى 500 دولار. ما يعني أنّ الطلب على السلاح انحسر، ولو مرحلياً على الأقل.

دلالات

ذات صلة

الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
المساهمون