تقرير مفوضة حقوق الإنسان يعيد السجال الأوروبي حول مسؤولية استعادة هؤلاء المعتقلين والموقوفين، من نواح قانونية-قضائية وتمويلية وسياسية واجتماعية. لكن ما يقلق الأوروبيين، في قضية مقاتلي تنظيم "داعش" الأوروبيين، ليس فقط من اعتقلوا في سورية والعراق، بل ما يرعب بعضهم غياب الآلاف عن رادارات الأمن، وإذاً الخوف من عودة غير متحكّم بها لهؤلاء إلى مجتمعاتهم التي غادروها للانضمام للتنظيم، بما يشكّله ذلك من مخاطر أمنية وفكرية، إذا لم يُشرك هؤلاء في برامج مكافحة التشدد، أو ملاحقتهم قضائياً لتحديد مسؤولياتهم عن ارتكاب جرائم، كما يوضح ساسة ومختصون أوروبيون.
هذه القضية معقدة سياسياً للقادة الأوروبيين التقليديين، في ظل "مخاطر" خسارة شعبية أحزابهم، مع تقدّم خطاب قومي متطرف في القارّة، بعضه يدعو للتخلص الجسدي من هؤلاء المقاتلين، وآخرون ينعتونهم بـ"الخونة". فإلى جانب أن أوروبا تعيش، منذ العام الماضي، بعد سقوط آخر حصون تنظيم "داعش" في سورية، أزمة مسؤولية وجدلاً في وجود أطفال ونساء التنظيم الأوروبيين في مخيم الهول، وبين حين وآخر تبرز حلول لاستعادة بعضهم كما أشارت "العربي الجديد" في تقرير سابق عن هؤلاء، فإن تحدياً آخر تعيشه القارّة مع "مقاتلي داعش الأوروبيين المفقودة آثارهم"، وهؤلاء ليسوا بضع عشرات، بل تصل أعدادهم إلى الآلاف، إذا ما جرى تجميع أرقام كل دولة أوروبية، واعتبار هؤلاء "المقاتلين" خطراً أمنياً على كل أوروبا.
ففي دراسة صادرة صيف العام 2018، عن "مركز بحوث التطرف" (Center for the Study of Radicalization (ICSR)" في "كينغز كوليج" في لندن، قُدّرت أعداد "المختفين" بنحو 5900 شخص، يشكل الرجال بينهم نحو 3400، ممن انضموا من دول في غرب القارّة إلى التنظيم في سورية والعراق، بالإضافة إلى نحو 7250 من دول شرق القارّة. ويعيد البعض القلق الأوروبي من عودة مختفين إلى تجربة أن بعضهم "عادوا خلال 2015 ضمن موجة طالبي اللجوء"، بحسب تصريحات جهات استخبارية مجرية لمكافحة الإرهاب، نقلتها صحيفة "تلغراف" في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. ووفقاً لأرقام 2018 الصادرة عن مركز الأبحاث، فإن من عاد إلى غرب القارّة من بين هؤلاء هم 1765 وإلى شرقها 784 شخصاً. ويُلاحظ أنه بين نحو 250 مقاتلاً من النمسا في صفوف التنظيم عاد نحو 93 منهم. ومن بلجيكا غادر نحو 500 مقاتل وعاد فقط 123. ومن بريطانيا تقدر أرقام من انخرطوا في التنظيم بنحو 850 عاد منهم 425، ومن بين الدنماركيين ومقيمين فيها عاد نحو 72 من أصل 145، غادروا إلى مناطق التنظيم في سورية بشكل رئيس. والمثير للانتباه، بحسب أرقام دراسة "مركز بحوث التطرف"، أنه من بين 1900 شخص غادروا فرنسا لم يعد سوى 400 منهم، وإلى إيطاليا لم يعد سوى 11 من أصل 129 مقاتلاً، وإلى هولندا عاد 60 من أصل 300، وفي إسبانيا كان رقم العائدين 30 من أصل 210.
والأسئلة المقلقة والمحرجة للسلطات الأوروبية جاءت بعد مطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب دولاً أوروبية، العام الماضي، بضرورة استرجاع مواطنيهم من المعتقلين في سورية، الذين يقدرون بنحو 800 شخص. وعاد ترامب، في فبراير/ شباط الماضي، إلى ذات الطلب على "تويتر"، موجهاً كلامه "للبريطانيين والفرنسيين والألمان والأوروبيين والحلفاء الآخرين لاستعادة 800 مقاتل من داعش قمنا بأسرهم في سورية".
تباين في الأرقام وسجال الإجراءات
وفقاً لدراسات متخصصة، ومن بينها أجرتها أجهزة أمنية أوروبية، تعمل في مجال ما يسمى "الوقاية من التطرف"، فإن أعداد من غادر وعاد تختلف من بلد إلى آخر، لكن منسوب القلق يبقى قائماً بما يتعلق بمن يسمون "المختفين عن الرادارات"، من دون معرفة دقيقة بمصير الجميع في سورية والعراق. ويشكّل الجدل في السويد وألمانيا حالتين خاصتين حول استعادة زوجات وأطفال مقاتلي التنظيم، والخشية من ظهور أهاليهم فجأة في البلدين بعد إعادة بعضهم. فالاستخبارات السويدية، تقدّر عدد من غادر للانضمام كرجال مقاتلين (وبينهم مراهقون)، من أصول سويدية ومهاجرة، بنحو 300، لم يعد منهم إلى البلد سوى 150 شخصاً. ويقدّر الجهاز الأمني السويدي، الذي يتابع كنظيره الدنماركي، من خلال مكاتب خصصها منذ ظهور "داعش" لمتابعة ما يسمى "التطرف والميول نحوه"، أن نحو 100 سويدي قتلوا في معارك التنظيم، لكن من دون وجود يقين تام حول ذلك، أو الأماكن التي قضى فيها هذا العدد.
ومن بين عاد من صفوف التنظيم إلى منطقة العاصمة استوكهولم، ثمة 35 إلى 40 شخصاً لم تتواصل معهم السلطات، ضمن مشروع متابعة ميول التشدد والمساعدة على العودة للمجتمع، إلى جانب عدم معرفة السلطات بحقيقة أرقام من قضوا في سورية، وفقاً لما نقل التلفزيون السويدي، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عن مسؤول عن مشروع مكافحة التشدد في العاصمة السويدية، ومدير فرع المخابرات السويدية السابق في غوتيبورغ، بو هليكفيست، الذي أكد أن "الأمر خطير وغير معقول، في غياب أي تواصل أو حوار مع العائدين من القتال في صفوف تنظيم داعش نحو استوكهولم". ورأى هذا المسؤول الأمني السابق، في حديث للتلفزيون السويدي، أن "عدم التواصل مع هؤلاء، يحمل مخاطر بعدم تقديمهم إلى المحاكم لتحمل مسؤوليات وتبعات قانونية، وعدم المشاركة في برنامج الخروج من أيديولوجية التشدد، مثلما هو البرنامج الذي عملت عليه بلدية غوتيبورغ منذ 2016، فالأمر ببساطة يتطلب التواصل والحوار لأجل إنهاء تشدد وتطرف هؤلاء الشبان". أما تقديره للخطر على المجتمع فأعاده إلى أنه "بعد أن عاشوا في سورية والعراق فقد اكتسبوا خبرات في القتال والمعارك، لناحية التعامل مع السلاح والمتفجرات، فإن ذلك بالتأكيد يعتبر خطراً حين يصبح الإنسان بلا رحمة".
وأعادت السويد أخيراً، بعد سجال طويل في المجتمع والسياسة، 7 من أطفال مقاتل سويدي في صفوف التنظيم. وكانت أكثر المناطق السويدية جذباً للقتال مع "داعش"، إلى جانب العاصمة استوكهولم، مناطق أوربرو، وغوتيبورغ ومالمو وبوروس، وسط وجنوبي غرب البلد، وهي ذاتها التي عاد إليها عشرات المنضوين في صفوف التنظيم، وبعضهم دخل في مشاريع مكافحة التشدد، لكنهم يبقون أقلية. وبحسب المسؤولة في برنامج التخلص من التشدد وإعادة الدمج بيتان بيفالد، فإن "التواصل معنا قليل من قِبل العائدين بسبب خوفهم مما تحمله مشاريع البلديات في وقف التشدد"، وذلك في تعليقها على إتمام فقط 16 عائداً بالغاً و10 أطفال ممن عادوا من مناطق التنظيم، قبل انهياره في سورية والعراق، لمشروع "الخروج". وينتقد خبراء في مجال مكافحة "الإرهاب" عدم متابعة العائدين، مثلما فعل في مارس/ آذار الماضي، الخبير من الأكاديمية السويدية مانوس رانستروب، منتقداً ما يسميه "تراخياً بالتعاطي مع العائدين من جانب السلطات. فنحن تقريباً البلد الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي يفتقر إلى تشريعات واضحة ضد المشاركة والتعاون مع المنظمات الإرهابية". واعتبر رانستروب أن "الخطر بالطبع موجود بتجول هؤلاء في شوارعنا، ويمكنهم ارتكاب أعمال إرهابية".
وفي السياق ذاته أيضاً، فإن القلق لدى الحكومة الاتحادية الألمانية من فقدان مسار مقاتلي "داعش"، الذين سافروا من البلد، والعودة غير المنضبطة أو عدم المتابعة واختفاء هؤلاء تحت الأرض، يدفع ببعض السياسيين للمطالبة بمراجعة سياسة منع عودة من انضم إلى "داعش". وهو ما ذهبت إليه مسؤولة الحزب الديمقراطي الحر في برلين، ليندا توتبيرغ. وكانت توتبيرغ كشفت، في سياق تلقيها جواباً على سؤال وجهته لوزارة الداخلية الألمانية، أن سلطات البلد فقدت أثر 160 مقاتلاً داعشياً ألمانياً، وفقاً لما نقلته صحيفة "فيلت ام سونتاغ" في 23 يونيو/ حزيران الماضي. وعلى الرغم من اعتبار الوزارة الألمانية أن بعض هؤلاء ربما قُتل في المعارك، فإن بعضهم الآخر تخفى "وربما يحاول أن يستعيد حياته وإقامته في ألمانيا". وانتقدت توتبيرغ السلطات الألمانية، بعد تأكيدها عدم وجود حماية كافية للحدود الأوروبية الخارجية، بسبب أنها "لم تتخذ إجراءات واضحة لمنع عودة غير متحكم بها لمقاتلي داعش والاختباء تحت الأرض". ومع وجود ما يقدر بألف وخمسين مقاتلاً ألمانياً سافروا إلى سورية والعراق، فإن القلق يتزايد لدى الألمان، وخصوصاً أن من بين هؤلاء فقط الثلث (350) عادوا إلى البلاد، ويعتقد أن نحو 200 قتلوا في المعارك، ويوجد نحو 120 معتقلاً في سورية والعراق، إضافة إلى وجود 138 طفلاً، فيما البقية لا أحد يعلم أين هم، وذلك وفقاً للبرنامج التلفزيوني الألماني "تاغس شو" نقلاً عن مصادر رسمية حكومية ألمانية في 20 يونيو الماضي. وفي المقابل، يؤكد المسؤولون الألمان أن "هناك إجراءات تمنع عودة هؤلاء من دون ملاحظتهم أو التحكم بهم، ولا يمكنهم دخول ألمانيا من دون معرفة الجهات الأمنية".
بكل الأحوال، يبدو أن القلق الأوروبي تصاعد مع سقوط آخر معاقل تنظيم "داعش" في الباغوز السورية، وزيادة أسرى التنظيم الأوروبيين. ففي تعقيب واضح على الأمر أعاد ترامب، في إبريل/ نيسان الماضي، رفع رقم المعتقلين لدى جهات كردية في شمالي شرق سورية إلى نحو 1800 مقاتل. وهؤلاء المعتقلون يعتبرهم الكرد، الذين تدعمهم واشنطن، بمثابة "قنابل موقوتة"، إذا ما تركوا للمغادرة بأنفسهم، في محاولة للضغط على الأوروبيين لاستعادتهم.
وكانت "وول ستريت جورنال" أشارت، في 12 إبريل الماضي، إلى "مأزق أوروبي وغربي في التعاطي مع الجهاديين المعتقلين: فإما استعادتهم ومحاكمتهم أو المخاطرة باختفائهم عن الرادارات ومن ثم القيام بهجمات جديدة في أوروبا". ويبدو أن حراكاً ما بدأ أخيراً. ففي فرنسا على سبيل المثال، وفي سياق الخروج من المأزق الأوروبي، أعلن رئيس الوزراء إدوارد فيليب، في يناير الماضي، أنه يفضل "استعادة الجهاديين الفرنسيين بدلاً من المخاطرة بتهربهم من العدالة. يجب تقديمهم للقضاء ومحاكمتهم عوض اختفائهم وتخطيطهم لأعمال ضد بلدنا أيضاً". بالطبع لم يمرّ هذا التصريح من دون مهاجمة من اليمين في حزب "الجمهوريون"، الذي يطالب "بإجراءات تمنع عودة الجهاديين الذين خانوا فرنسا وقاتلوا ضد حضارتنا". لكن يبدو أيضاً أن هذا المأزق الأوروبي سيظل خاضعاً لتوجهات سياسية حزبية ومصالح وعلاقات متشعبة، داخلية وخارجية، على الرغم من ارتفاع أصوات حقوقية، مثل مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومنظمة "يونيسيف"، فيما خص أوضاع أطفال أوروبا في مخيم الهول وخوف أوروبا من ظهور آبائهم حال نقلهم إلى بلادهم.