خسّة من أجل رفعة الوطن!

06 يناير 2020
+ الخط -
على صفحته في "فيسبوك" نشر صديقنا، قبل أشهر، فيديو يظهر فيه مواطن من أبناء محافظة ساحلية متحدثاً بحرقة عن تضرره من فساد لواء جيش تضخم نفوذه في تلك المحافظة، مثل ما تضخم نفوذ لواءات الجيش وضباطه في مصر كلها، ومشيراً إلى دوائر الفساد الصغيرة التي تشكل دائرة الفساد العملاقة المحيطة بمصر، فكرت في مشاركة الفيديو لكني ترددت، حين فكرت أنّ ذلك المواطن ربما صوّر الفيديو في لحظة قهر بسبب قطع رزقه، وربما أدى انتشار الفيديو أكثر إلى التنكيل به من اللواء الشرّاني وشركائه ومحاسيبه، فاكتفيت بالدعاء له أن يرزقه الله السلامة، ويكفيه ويكفينا شر المسعورين من لواءات "الشبعة بعد جوعة".

أكثر ما لفت انتباهي أنّ صديقاً مشتركاً من "وطنجية السيسي" كتب تعليقاً ساخطاً على الفيديو يقول فيه: "كلهم ولاد كلب هيموتوا على الفلوس ومش مهم البلد"، مشيراً لفكرة ترددت كثيراً بعد ظهور المقاول والممثل محمد علي على سطح الأحداث، تقول إنّ محمد علي لم ينقلب على النظام إلا حين تعرضت مصالحه للضرر، وهي فكرة كان مؤيدو السيسي يرددونها في البداية بكثافة، ثم هدأت حدة استخدامها بشكل ما، حين اعتبرها العقلاء من هؤلاء إقراراً ضمنياً بمشاركة السيسي ولواءات الجيش في الفساد الذي تحدث عنه محمد علي، لذلك قرروا التركيز على الحديث عن أقاويل أكله لميراث أولاد أخيه وإدمانه للمخدرات وطريقة كلامه التي يرونها سوقية ومنفلتة، مع أنهم يستخدمون ما هو ألعن منها طول الوقت في الكلام عن معارضي السيسي، وبالطبع لم يكن متوقعاً منهم بعد ترديد تلك الأقاويل الخائفة على الشرف والأخلاق ومال اليتامى، أن يقولوا إنهم يريدون أيضاً إجراء تحقيق رسمي فيما قاله ولو حتى من باب السعي إلى فضح كذبه، لأنهم يعلمون في داخلهم تبعات مواجهة النفس بحقيقة المقلب الذي شربوه في البطل المخلص عبد الفتاح السيسي.

المهم أنني تذكرت أنّ صديقي كاتب التعليق الغاضب من الاهتمام بالفلوس والمصالح، كان يرغب في إشعال النار في مقر صحيفة عملنا فيها سوياً قبل سنوات طويلة، حين تأخر مالك الصحيفة في صرف مرتباتنا لمدة شهرين، كان صديقي محقاً في غضبه، لأنّ مالك الصحيفة كان نصاباً ويستحل حقوق الصحافيين ببجاحة أشد من كثيرين من ملاك الصحف الأشيك شكلاً والأحلى لساناً، لكن صديقي بعد أن مرت السنوات نسي أنه كان من بين البشر الذين يمكن أن يفعلوا أي شيء من أجل تأمين رزقهم وحقوق عيالهم، فأصبح لا يزايد فقط على المواطن السواحلي المنكوب، بل أصبح يستحل الطعن في ذمة كل معارضي السيسي، ويتهمهم بالعمالة والقبض من الخارج، حتى لو كانت معارضتهم للسيسي قد خربت بيوتهم وقطعت أرزاقهم.


مشكلة اتهام المعارضين بالعمالة والقبض من الخارج والموت على الفلوس، أكبر بكثير من صديقي الذي أصبح يعيش في السنوات الأخيرة انتعاشة طبقية مرتبطة بـ"التعريص" للنظام والأجهزة الأمنية، لأنّ هناك كثيرين ممن ليس لهم في "التعريص" المباشر ولا غير المباشر، وليس لديهم أي ارتباط مصلحي بالنظام، يشاركون صديقي في اعتقاده، لأن الصورة الذهنية الراسخة لديهم هي أنّ الكاتب شمعة تحترق من أجل إسعاد الآخرين، والناشط السياسي والحقوقي لا يجب أن يتلقى أجراً على عمله، وبالتالي فطلبه للرزق اسمه استرزاق وسبوبة وعمالة، لكن طلب من يتهمه بذلك للرزق أمر مشروع ولا يستحق النقد، ولذلك حين نشرت صحف النظام أنّ أستاذ العلوم السياسية الدكتور حسن نافعة قام بطلب مقابل مادي مقابل ظهوره في أحد البرامج أو الأفلام التسجيلية، انشغلوا بالحديث عن ذلك وتجاهلوا أن سجنه والأمر بتجميد أمواله سعياً لمصادرتها، لم يكن له علاقة بما يتلقاه كمقابل مادي في البرامج، بل بآرائه المعارضة للنظام التي كان يعلنها من قلب مصر، في الوقت الذي كان النظام وأذنابه يقومون بتخوين كل من يعارض النظام من خارج مصر ويدعونه للعودة إلى مصر ليعارض من الداخل.

تقتضي الأمانة أن أعترف بأنني لم أكن بريئاً من هذه الأفكار، لا أنا ولا كثير من زملائي الصحافيين، حين بدأنا قبل أكثر من عشرين عاماً رحلتنا مع إعداد البرامج التلفزيونية، وكنا نشعر بالصدمة حين نرى بعض أساتذتنا وهم يحرصون قبل استضافتهم في البرامج على معرفة طبيعة المكافأة التي سيحصلون عليها، قبل حتى أن يعرفوا موضوع الحلقة التي سيتحدثون فيه، وحين كبرنا وأصبح لدينا عائلات ومسؤوليات والتزامات فهمنا ذلك السلوك ومبرراته، وأصبح معيارنا في الحكم على أساتذتنا مرتبطاً بقيامهم بالتحضير الجيد لما سيقولونه في البرنامج، بدلاً من ضرب أي كلام يا عبد السلام.

كانت أفكارنا في البداية ناتجة عن ازدواجية المجتمع ونفاقه في كل ما له علاقة بالمادة، وهو نفاق يتم توارثه جيلاً بعد جيل، ويساهم فيه الكتاب والسياسيون أنفسهم، حين لا يتحدثون في هذا الموضوع بصراحة، حتى وإن أغضب البعض، ولذلك لا زال سلاح الاتهام بالاسترزاق والسبوبة مفضلاً لدى ضباط الأجهزة السيادية ومخبريهم، لأنهم يعرفون تأثيره السريع على جمهورهم المنافق والكسول، والذي يستسهل وضع الحواجز بينه وبين ما يسمعه من آراء وأفكار، مفضلاً اتهام شخص صاحبه أو تصديق ما يقال عنه من اتهامات، لأن ذلك أريح له من الفصل بين الشخص وما يقوله من آراء، والتفكير فيها بمعزل عن ما يطارد صاحبها من اتهامات، لعله يجد فيها شيئاً ينفعه.

هذا النوع من الجمهور، ونسبته هي الأكبر في بلادنا للأسف، لا يجرؤ على تطبيق نفس معاييره المتمحصة الفاحصة للاستقلالية المالية على لواءات الجيش والشرطة المنتشرين في كافة مواقع الحكم، مع أنهم يصرفون من المال العام، أي من أموال المواطن العادي التي كان يمكن بها تحسين وضع المستشفى التي سيعالج فيها، أو المدرسة التي يمكن أن يدرس ابنه فيها، ومع ذلك لا يمارسون عليهم نفس الاستئساد الذي يمارسونه في كل ما يتعلق بأموال المعارضين، حتى لو كانت بعيدة عن المال العام، لأنهم يعلمون أن محاسبة المسؤول خصوصاً لو كان من خلفية عسكرية أو شرطية، لها تبعات وخوازيق وكرابيج وأسلاك كهرباء، لذلك يلجأ هؤلاء لـ"الغلوشة" على أي كلام يتعلق بأموال السادة اللواءات، فيجعجعون بشعارات طنانة وبكلام فارغ عن تضحية اللواءات بأرواحهم من أجل مصر، أما بعضهم الأكثر تفضيلاً لديّ، فهم الذين يعلنون تصالحهم بأعلى صوت مع خستهم ودناءتهم وتناقضاتهم، ويعتبرونها "خسّة من أجل رفعة الوطن ودناءة لازمة من أجل بقائه حراً كريماً بين الأمم".

لكن تلك الحالة التي كانت منتشرة بشراسة بين "المواطنين الشرفاء" في الأوقات التي كانت المعيشة لا تزال محتملة في مصر، وكانت فكرة "آدينا عايشين وخلاص" لها بريقها ووجاهتها، لم تعد تحظى بنفس أنصارها وشعبيتها مع تدهور المعيشة ومع توالي الصدمات التي يتلقاها أنصار جمعية "أوساخ من أجل مصر"، وعدم قدرتهم على الإفلات من التناقضات التي تتضح ملامحها مع مرور الوقت، ولم يعد صوت الزعيق الوطني صالحاً لـ"الغلوشة" الكاملة عليها، ومن هنا كانت الصدمة التي أحدثتها فيديوهات محمد علي في خريف العام الماضي، خصوصاً حين ظهر السيسي على الملأ مقراً بكثير مما جاء فيها، ومتبجحاً بأنه يبني القصور بالفعل، لتأتي صدمة الاعتراف مدوية بشكل لم يلفت انتباه المصدومين إلى الجزء الذي قال فيه إنه يبني تلك القصور من أجل مصر.

لا يعني ذلك بالطبع أنّ ظاهرة الاستئساد على المعارضين وحدهم ستختفي، فقد أثبت العلم الحديث بدل المرة ألف مرة أنّ "ديل الكلب ما يتعدل ولو علّقوا له قالب"، ولذلك سيظل لذلك النوع من الاستئساد المالي على المدنيين، جمهوره وأنصاره، لكن ذلك الاستئساد المنحط لن ينجح في إخفاء الأسئلة التي يعلو صوتها كل يوم أكثر وأكثر: من أين كسب السادة اللواءات كل هذه الثروات؟ وبأي حق؟ وبأي أمارة؟ وما الذي عاد علينا كمواطنين من انفرادهم بكل شيء؟ ومن اكتساحهم لكل مجالات الـ"بيزنس"؟ وأين ما وعدونا به من رخاء بعد أن أصبحنا لا نجد الفتات الذي كنا نضمنه زمان؟ ومن سيحاسبهم ومن يراقبهم؟ وإذا كان من واجبنا أن نسأل المعارض: من أين لك هذا؟ أليس من باب أولى لكي تتغير حياتنا وتصبح أحسن أن نسأل الحاكم: من أين لك هذا أنت وأولادك وزوجتك وأقاربك ومحاسيبك؟ ولّا السؤال يصح على المعارض ويحرم على الحاكم؟

بالتأكيد سيحاول السيسي بكل ما لديه من قوة البطش أن يخرس تلك الأسئلة أو يجعلها محفوفة بالمخاطر، لكنه لم ولن يستطيع أن يمنعها من التردد في الخواطر والعقول والقعدات والحوارات الجانبية، ولذلك حين يحدث الناس عن التقشف والمعاناة من أجل مصر، يرون في عقل بالهم صور القصور ويسمعون تفاصيل النهب والسلب بصوت محمد علي أو بدون صوته، ولذلك لم يجد السيسي في الشهور الماضية سبيلاً سوى الاستئساد على المعارضين، ولم يعد يجد مشكلة في تطبيق سياسة "أنا أو الفوضى"، وهي سياسة قد تساعدك مثل حسني مبارك في البقاء على كرسي الحكم، ولكن كقاتل لص، وليس كبطل مخلّص، وهي مسألة على رأي الست وردة "تفرق كتير.. تفرق كتير".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.