ليس بعيداً عن الصحّة القول إن الحرمان العمراني مرتبط بشكل وثيق بما يُسمّى "ثقافة الفقر"، وهو مصطلح ظهر في أدبيّات علم الاجتماع كاستجابة لعلاقة الحرمان العمراني بالثقافي، وتأثير ذلك على انسحاب الطبقات الفقيرة الذي يَنتج عنه "اللاتوازن الاجتماعي". الأمر أن "ثقافة الفقر"، في هذه الظروف، تنتقل من جيل إلى آخر، وتبدو كما لو كانت دائرة مغلقة ومعدّة دائماً للانفجار. لكن نظرية "ثقافة الفقر" هذه ترفض، أيضاً، الإنفاق العام بسخاء على مشاريع إسكانية إن كان هناك نقص أساسي في المشاريع الثقافية، كالتعليم مثلاً، لأن حلول الحرمان العمراني إن أتت على حساب الثقافي والاجتماعي ستؤدّي إلى الاستمرار في توارث تلك الثقافة من جيل إلى جيل. ويبدو أن مصر تواجه هذه المعضلة اليوم.
من هنا لا، يُعدّ الحرمان العمراني مؤشراً على الخلل الطبقي وعدم التنظيم المديني وقلّة الخدمات فحسب، بل إنه يُعدّ، أيضاً، وجهاً من أوجه العطل المؤسّسي الخطِر الذي يقود إلى لحظات انفصال ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي، بلا شك.
عددٌ من الباحثين في مجموعة "10 طوبة للدراسات والتطبيقات العمرانية"، في "مبنى الغريك كامبس" في العاصمة المصرية، أطلقوا، قبل أيام، موقعاً إلكترونياً خاصّاً بـ "مؤشّر الحرمان العمراني"، والذي جاء بعد جهد بحثي وإحصائي تحليلي دام عدّة أشهر، قبل أن ينتظم في صورة تفاعلية تعتمد شكل الإنفوغرافات التبسيطية.
الباحث الرئيسي في المشروع، يحيى شوكت، أحد مؤسّسي "10 طوبة"، قال إن جزءاً من البيانات التي اعتمد عليها البحث استُمدّ من تقارير حكومية متفرّقة، إضافة إلى بيانات أحصاها الفريق البحثي بنفسه، وبعض المقاربات الإحصائية والتحليلات لسدّ العجز في البيانات الحكومية التي كان بعضها متاحاً للجمهور مجّاناً أو لقاء رسوم، "في حين تقدّمنا لأجهزة رسمية بطلبات للحصول على بعض البيانات". ولم يغب عن شوكت أن يلفت الانتباه إلى أنه، ووفقاً لهذه الصيغة في جمع بيانات ذات طابع رسمي، فإن هذا "يعني أنها في بعض الأحيان ليست دقيقة تماماً".
أحد الأمثلة التي أشار إليها شوكت فيما يخصّ عدم دقّة البيانات تتعلّق ببعض المحافظات الحدودية الصحراوية (الوادي الجديد والبحر الأحمر كمثال)، والتي يقول أحد التقارير إن نسبة الحرمان فيها من مجمل المؤشّرات الستّة كانت الأقلّ على مستوى البلاد، إذ انحصرت بين 5 إلى 20%، وهو ما اعتبره المتحدّث نسبةً غير دقيقة، خصوصاً في ظلّ حالة التهجير الداخلي التي تحدث مثلاً في محافظات حدودية أخرى؛ كشمال وجنوب سيناء.
يحاول المشروع أن يتفحّص من الأبواب الخلفية العلاقة الجدلية بين القانون والمجتمع. وعبر الإحصاءات العديدة التي قدّمها، يمكن ملاحظة ديناميات هذه العلاقة، والتي تتأتّى عبر عدد من الأشكال؛ أبرزها: صياغات قانونية مجحفة وغير دقيقة تختص بشؤون العمران (الصياغة الجزافية للمناطق المحرومة بوصمها بالمناطق العشوائية)، وتغاضي الدولة عن اجتراح حلول قانونية ناجزة لا تعرّض أمن الناس في مساكنهم إلى أخطار الإزالة أو الانهيار أو الإخلاء القسري، إضافةً إلى سيل التعريفات الرسمية غير الواضحة لمعنى الحرمان.
بسببٍ من هذا الأخير، فإن باحثي المشروع اعتمدوا في تعريفهم للمسكن الملائم على التعريف الذي يعتمده "العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" (1991)، والذي صدّقت عليه مصر، حيث "يعرّف العهدُ المسكن الملائم بأنه ذلك الذي: له أمن حيازة قانوني، وتُوفَّر له الخدمات والمواد والمرافق (المياه والصرف الصحي والكهرباء)، تكلفته يمكن تحمّلها، مجهّز للمعيشة (مساحة المعيشة كافية والسكن آمن إنشائيّاً)، متاح (للفئات المحرومة)، موقعه جيد (بالنسبة إلى فرص العمل والخدمات الاجتماعية)، ويراعي الاعتبارات الثقافية".
لكن في سياق هذا التعريف الشامل، تبدو "السياسات العمرانية وسياسات الإسكان مضلّلة إلى حد كبير على مدى العقود القليلة الماضية"، ويفصّل موقع المشروع هذه المحاولات الفاشلة بتبيان أن "التوسّع العمراني إلى مجتمعات جديدة في الصحراء، بعيدًا عن الأراضي الزراعية حرم المدن والقرى القائمة من الاستثمارات العامّة، سواءً في الصيانة أو التوسّع في بنيتها التحتية"، إضافة إلى أن الاعتماد على إنشاء "الوحدات السكنية الجاهزة" أثبت عدم ملاءمتها لغالبية الأسر "نظراً إلى نسقها أو موقعها أو أسعارها"، وأخيراً تآكل القدرة على تحمّل التكاليف "بسبب إزالة القيود عن سوق العقّارات وتشجيع الدولة لتسليع الأراضي الرسمية في المدن الجديدة وفي غيرها".
ما يلفت الانتباه هنا أيضاً، هو ذلك الجسر الغائب الذي يحاول باحثو "10 طوبة" الإشارة إليه بالمقابلة بين الحلول الحكومية الفاشلة بحسبهم، وبين الأبعاد الاجتماعية للسكن، ليس وصفه حيازة مكانية فقط، وإنما باعتباره نسقاً متكاملاً.
لمشروع "مؤشّر الحرمان العمراني" أهمية، ليس فقط لناحية الكمّ الكبير من البيانات المجمّعة أو الجهد البحثي المبذول فيها لجهة الرصد والتحليل والإحصاء، وإنما أيضاً لأنه يجعل من هذه البيانات متاحة في قالب سلس يعتمد على الإنفوغرافات الملوّنة؛ بحيث يمكن لأي أحد أن يطّلع عبر الموقع على خريطة لكامل القطر المصري تُسهّل له العثور على بيانات كل محافظة بمجرّد الضغط عليها، تبعاً للمؤشّرات الستّة سالفة الذكر.