يعتبر أنصار حزب "العدالة والتنمية" هذه الانتخابات استفتاءً على "تركيا الجديدة" بنظامها الرئاسي بدل البرلماني، بما يعدونه استكمالاً لـ"ثورة 2002"، والتي بدأت بوصول "الليبراليين المحافظين" أي "العدالة والتنمية" للحكم وتشكيله لأول حكومة منفردة، بعد عقد من الحكومات الائتلافية المرتبكة، والتي ميّزت حقبة التسعينيات بكل ما مثّلته سياسات هذه الحكومة من خرق كبير لتقاليد الجمهورية الكمالية على كافة الأصعدة. بل انتهت إلى ضرب "الدولة العميقة" وإنهاء نظام الوصاية العسكري الذي حكم البلاد أكثر من تسعين عاماً.
تبدو هذه الانتخابات ثورية على صعد عدة. فقد شهدت الحركة القومية الكردية ممثلة بحزب "الشعوب الديمقراطي" (الجناح السياسي للعمال الكردستاني) تحوّلات كبيرة على المستوى السياسي والفكري، تمثّلت بالترشح للبرلمان بقائمة حزبية، بكل ما يمثّله هذا الخيار من خطر عدم تجاوز عتبة العشرة في المائة من الأصوات والبقاء خارج البرلمان. أمّا على المستوى الفكري، فقد شهدت هذه الانتخابات تطبيقاً واسعاً لتنظيرات ومراجعات زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، والتي يطلق عليها الإعلام التركي "تتريك الحركة القومية الكردية"، وذلك بالتحول من حركة سياسية تناضل من أجل الحقوق القومية للأكراد حصراً، إلى حركة سياسية يسارية واسعة الطيف، تضمّ بشكل أساسي الطبقات التي همّشتها الجمهورية الكمالية، كالأكراد والأرمن والسريان واليونانيين والعلويين البكداشيين، إضافة إلى ممثلين عن الليبراليين والخضر والجمعيات المساندة لحقوق المثليين، يدعمها جزء مهم من اليساريين الأتراك والإسلاميين الأكراد.
اقرأ ايضاً: انتخابات تركيا وتحولات الأمتار الأخيرة
يؤكد "الشعوب الديمقراطي" رغبته في تحقيق السلام، ويطرح تعريفاً جديداً للأمة التركية على أنها مجموعة من "الشعوب الديمقراطية" المتمايزة والمتوحدة في إطار الانتماء للجمهورية والرغبة في العيش المشترك. وبلغت مظاهر تطبيق هذه المراجعات ذروتها برفع حزب "الشعوب الديمقراطي" أعلام الجمهورية التركية في حشوده الانتخابية، بكل ما يمثّله هذا التصرّف من خرق لأدبيات "العمال الكردستاني"، بوصفه حركة قومية كردية يسارية انفصالية. أما حزب "الشعب الجمهوري" وريث الكمالية، أكبر أحزاب المعارضة والمبعد عن الحكم منذ أكثر من 12 عاماً، فيعتبر هذه الانتخابات مفصلاً مهماً في ضرب ما يطلق عليه "تسلطية أدروغان والعدالة والتنمية". يعتمد "الشعب الجمهوري" سياسة تحاول الابتعاد عن "رد الفعل" الذي ميّز أداءه السياسي بمعارضة كل ما يطرحه "العدالة والتنمية". لكن سياسته تتبنى برنامجاً "أفلاطونياً" يعتمد على ركيزتين؛ الأولى، برنامج اقتصادي يطرح الكثير من الأسئلة حول واقعيته وإمكانية تطبيقه. أما الركيزة الثانية، فتقوم على تبني سياسة عنصرية ضد اللاجئين السوريين في محاولة لجذب أصوات المنزعجين والمتأثرين من كثافة الوجود السوري في تركيا، عبر إدخال اللاجئين في بازار الانتخابات، لتبلغ هذه السياسة ذروتها عبر التحذير من احتمال تصويت السوريين لـ"العدالة والتنمية" في الانتخابات، عبر هويات تركية لأشخاص أموات، لم يتم تسجيل وفاتهم في القيود المدنية.
كل ذلك، في الوقت الذي أتى حزب "الحركة القومية" (يميني قومي متطرف) ببرنامج يعتمد على الجانب الاقتصادي مع المحافظة على كلاسيكياته المعهودة في معارضة عملية السلام مع "العمال الكردستاني"؛ لجذب المواطنين المنزعجين من انفتاح "العدالة والتنمية" على القضية الكردية.
اقرأ أيضاً: إصابة 10 في انفجار خلال تجمع لـ"الشعوب الديمقراطي"
اللاعبون الرئيسيون
على الرغم من المنافسة المحتدمة بين مختلف الأحزاب التركية، إلّا أنه يبقى كل من "العدالة والتنمية" و"الشعوب الديمقراطي" اللاعبين الرئيسيين بل ونجمَي هذه الانتخابات. فـ"العدالة والتنمية" يسعى لتحقيق أغلبية برلمانية عالية تقارب ثلاثة أخماس المقاعد النيابية، أي 330 مقعداً من أصل 550، متجاوزاً تلك التي حازها في انتخابات عام 2011 بحصوله على نسبة 49,5 في المائة من عموم الأصوات. أمّا "الشعوب الديمقراطي"، فيحاول تجاوز العتبة الانتخابية ورفع تعداد نوابه من 37 إلى ما يقارب الـ60 نائباً، ليبلغ التنافس ذروته بين الطرفين. إنّ صعود "الشعوب الديمقراطي" سيعني نهاية سيطرة "العدالة والتنمية" على الأغلبية البرلمانية الكافية لتمرير حلم رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان، الأهم، بالتحوّل نحو النظام الرئاسي. أما هزيمته، فستعني ذهاب جميع المقاعد التي يتنافس عليها الطرفان في الدوائر الانتخابية إلى "العدالة والتنمية".
وتختلف استطلاعات الرأي من حيث النسب التي سيحوزها كل حزب، لكن جميعها تقريباً يجمع على أنّ "العدالة والتنمية" لن يحوز الأغلبية البرلمانية ذاتها، وأن "الشعوب الديمقراطي" لا يزال في دائرة خطر عدم تجاوز العتبة الانتخابية، واضعة نسبة أصواته بين 8,5 و11,5 في المائة.
بحسب الاستطلاع الذي أجراه مركز ORC للأبحاث، يومي الأحد والإثنين الماضيين، والذي شمل 36 ولاية و3850 مواطناً تركياً، حصل "العدالة والتنمية" على نسبة 46 في المائة من الأصوات، بينما انخفضت نسبة أصوات "الشعب الجمهوري" بمقدار ثلاث نقاط عن نتائج الانتخابات البلدية العامة التي أُجريت في مارس/آذار الماضي، لتعود إلى وضعها في الانتخابات البرلمانية السابقة، وتبقى عند نسبة 25,3 في المائة، بما يعني أنه لا يزال بعيداً عن نسبة الثلاثين في المائة التي يسعى لها زعيم الحزب كمال كلجدار أوغلو. أما حزب "الحركة القومية"، فلا يزال يراوح عند معدّله بنسبة 15,5 في المائة، ليخرج حزب "الشعوب الديمقراطي" من البرلمان بحصوله على نسبة 9 في المائة من الأصوات فقط. بينما ستذهب 4 في المائة من الأصوات المتبقية إلى بقية الأحزاب الصغيرة. ومن المرجّح أن يكون لـ"التحالف الملِّي" بين حزب "السعادة" (أحد ورثة نجم الدين أربكان) وحزب "الاتحاد الكبير"، الحصة الأكبر من الأصوات.
اقرأ أيضاً: محاولات أخيرة للأحزاب التركية لحشد الأصوات
سيناريوهات الحكومة المقبلة
يقرّر الناخبون الأتراك البالغ عددهم 53 مليوناً و765 ألفاً و231، اليوم، أحد السيناريوهات الأربعة.
السيناريو "الأردوغاني" الذي يعتمد على فشل "الشعوب الديمقراطي" في تجاوز العتبة الانتخابية مع فشل كل من "الشعب الجمهوري" و"الحركة القومية" في الحصول على زيادة معتبرة في نسبة الأصوات، وبالتالي، حصول "العدالة والتنمية" على ثلاثة أخماس المقاعد البرلمانية الكافية لتمرير دستور جديد بنظام رئاسي نحو استفتاء شعبي. ما يعني أنّ أردوغان سيطلب من رئيس الحكومة والحزب الحاكم، أحمد داود أوغلو بالعمل على تقديم مشروع الدستور الجديد بأسرع وقت، الأمر الذي أكّد داود أوغلو أنّه سيتم بالتشاور مع المعارضة التي لا تزال تبدي رفضاً قاطعاً للنظام الرئاسي. لكن أغلبية "العدالة والتنمية" البرلمانية وإصرار أردوغان سيجعلانه أمراً واقعاً لا بد من التفاوض عليه، لتخفيف السلطات الواسعة التي من المتوقع أن يطلبها أردوغان لرئاسة الجمهورية. هنا، يبدو كل من "الشعوب الديمقراطي" و"الحركة القومية" أقرب الأحزاب القابلة لخوض مثل هذا النوع من المفاوضات.
أمّا سيناريو داود أوغلو فيكمن في نجاح "الشعوب الديمقراطي" بتخطي العتبة الانتخابية مع فشل باقي الأحزاب برفع نسبة أصواتها، أي أن مقاعد "العدالة والتنمية" ستكون بين 300 و330 مقعداً، ما يزيد الضغوط التي سيمارسها أردوغان على داود أوغلو لإيجاد حلول، إمّا بصناعة تحالف مع أحد أحزاب المعارضة لرفع نسبة الأكثرية فوق 330، وتمرير الدستور الجديد، وهنا يبدو حزب "الحركة القومية" الأقرب لهذا التحالف، أو التوجه نحو انتخابات مبكرة لإعادة المحاولة مرة أخرى. لكن من جانب آخر، فإن 300 مقعد ستكون كافية لداوود أوغلو لتحقيق انتصار "نفسي" ورفع أسهمه في الحزب، بتجاوزه أول امتحان له بوصفه قائداً لـ"العدالة والتنمية"، ما سيعزز قدرته على مواجهة أردوغان والدفع نحو نظام رئاسي مقيّد بشكل أكبر في البرلمان، والحفاظ على منصب رئيس الوزراء الذي يميل أردوغان لإلغائه في نظامه الرئاسي الجديد.
اقرأ أيضاً: جثث "العمال الكردستاني" والانتخابات التركية: الهدنة مستمرة
والسيناريو الثالث الذي ينجح "الشعوب الديمقراطي" بموجبه في دخول البرلمان، كما ينجح كل من "الشعب الجمهوري" و"الحركة القومية" برفع نسبة أصواتهما، لكن ليس بما يكفي لدفع "العدالة والتنمية" تحت حصة 276 مقعداً برلمانياً، وهو الحدّ الأدنى لتجاوز أي تصويت على الثقة على الحكومة، وبالتالي، استمرار حكم "العدالة والتنمية" منفرداً، لكن مع وجود معارضة قوية وفاعلة قادرة، إن تحالفت، على تعطيل حركة العدالة والتنمية، ما سيزيد الضغوط على داود أوغلو وقد يدخل الحزب في أزمة قد تكون الأكبر منذ تأسيسه، وسيضع داود أوغلو في موقع "الفاشل" وسيجعل فرصه معدومة في المواجهة التي ستبلغ ذروتها في مؤتمر الحزب في أيلول/ سبتمبر المقبل.
السيناريو الرابع يكمن في نجاح المعارضة التركية في دفع عدد مقاعد "العدالة والتنمية" تحت 276 مقعداً. في هذه الحالة، سيكون "العدالة والتنمية" أمام عدة خيارات، أوّلها، الموافقة على تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد أحزاب المعارضة على حساب التخلي عن الدستور الجديد ذي النظام الرئاسي. أما إن كانت الحكومة الائتلافية بين "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، فمن غير المرجح حصول أي تغيير حقيقي في الموقف، باستثناء اتخاذ موقف أكثر صرامة في ما يخص مفاوضات السلام القبرصية الذي قد يؤدي إلى تجميدها وبذل المزيد من الدعم للتركمان في كل من سورية والعراق.
وعن التحالف بين "العدالة والتنمية" و"الشعب الجمهوري"، فهو غير ممكن، بحسب زعيم الحزب كمال كلجدار أوغلو، والذي وصف تحالفاً كهذا بـ"المخالف لطبيعة الأشياء". وفي حال قرّر "العدالة والتنمية" الخروج من الحكومة فاسحاً المجال لـ"الشعب الجمهوري" بتشكيل حكومة ائتلافية هشة والعودة إلى صفوف المعارضة، وهو أمر مستبعد، عندها سيكون من المتوقع حدوث "تغيير كبير" في بوصلة العلاقات الخارجية نحو علاقات أقل صدامية مع إيران وأكثر انفتاحاً على النظام الانقلابي في مصر وأقل قرباً من قطر والسعودية، وفي الوقت ذاته، أكثر توجّهاً نحو أوروبا وأكثر بعداً عن الشرق الأوسط، الأمر الذي أكّده كلجدار أوغلو قائلاً: "نريد أن نكون جزءاً من أوروبا ولا نريد أن نكون جزءاً من الشرق الأوسط".
اقرأ ايضاً: العد العكسي للانتخابات التركية: لعب الأوراق الأخيرة
لكن هذه الخطوة لن تكون سهلة، خصوصاً في ظل الشبكات والروابط التي أنشأها حكم "العدالة والتنمية" منذ أكثر من 12 عاماً. فمن المستحيل التقرب من الرئيس السوري بشار الأسد وإيران وتوقيف دعم المعارضة السورية في ظلّ الاتفاق الأميركي ــ التركي على تدريب المعارضة السورية المسماة "معتدلة"، وفي ظلّ الموقف الأوروبي المعادي بشكل واضح للنظام السوري، إذ لن تتجاوز قدرة "الشعوب الديمقراطي" على الحركة بأكثر من تضييق الخناق على اللاجئيين السوريين من دون القدرة على التحول نحو عداء المعارضة السورية، الذي قد يضع أنقرة في مواجهة مباشرة مع "جبهة النصرة" وفصائل المعارضة السورية بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر أمنية.
اقرأ أيضاً: استراتيجية "العدالة والتنمية" لـ330 مقعداً: إفشال "الشعوب الديمقراطي"