حين بدأ الإمام يدعو للملك، فرحتُ كثيراً، هذه علامة من علامات الاندماج في المجتمع، الذي ينكره علينا كثيرون.
استبعدتُ فكرة شريرة خطرتْ ببالي، ماذا لو قام أحد المصلين وقال: هل يجوز الدعاء لملك نصراني؟
لكن بالتأكيد سيردّ عليه مصل آخر: هو وليّ الأمر، ويجب أن ندعو له، هذا نوع من الشكر لبلاد استقبلتنا وقدمت لنا ضروريات الحياة.
وربما سيطلب آخر من الإمام: أرجوك لا تنس البطانة الصالحة! من حسن حظنا أن البطانة الصالحة في هذه البلاد ليسوا رجال مخابرات بل القوانين هي البطانة الصالحة!
قبل نهاية الدعاء، طمأننا الإمام: الملك يُحبكم، ويحرص عليكم، ويتمنى لكم الخير.
كدتُ أن أصيح: ونحن نحبه، ونشكره!
لكن تداركت: لن يقدّر بعض المصلين كلامي مع الإمام، ربما لا يعرف جلّهم أن أصل الخطبة في الإسلام الحوار والنقاش، وليس الوعظ. ذكرتُ نفسي بالقول: عليك أن تحافظ على الأعراف!
وحين كرر الإمام قوله: الملك يحبكم ويحييكم فرداً فرداً، رنتْ في بالي ذكرى كريهة قادمة من أيام المعسكرات الشبيبية التي أُجْبِرَ عليها الطلاب السوريون فترة طويلة، وكان ثمة عضو قيادة قطرية من حزب البعث في سورية يجول على تلك المعسكرات ويبدؤها بالقول: جئت لأنقل لكم تحيات السيد الرئيس، فيرد عليه الشباب بالهتاف بحياة القائد، ظناً منهم أن السيد الرئيس يعرفهم واحداً واحداً ويبلغهم تحياته.
لم تكن تلك الذكرى مريحة. شتان شتان بين ملكنا الهولندي وزوجته الجميلة الأنيقة أرجنتينية الأصل، مكسيما، وذلك الطاغية المأفون. يشكل الملك والملكة في هولندا حالة أقرب إلى الفرح، أقرب إلى التقاليد الثقافية والمزاح، والبعد البروتوكولي، فالملك في وطني الجديد يملك ولا يحكم، لكنه محبوب، ينتمي إلى عائلة تفوح من ذكراها البطولة والمحبة والصبر، بما أن أجداده منذ مئات السنوات قد أسهموا في تحرير البلاد والدفاع عنها من الاحتلال الإسباني أيام الصراع الكاثوليكي البروتستانتي...باختصار: ها هنا إذا ذكر الملك تبتسم الوجوه، أما هناك فإذا ذكر الرئيس تحضر ذاكرة الرعب والخوف فتغيب الابتسامة!
وأذكر أن مدرس اللغة الهولندية أول وصولي إلى هذه البلاد، كان يبدأ الدرس بشتم الملك، كناية عن حرية التعبير! وكدتُ أن أصدق ذلك المدرس وأنخرط في حرية التعبير تلك، لولا نصيحة لاجئ خبير: لدي قناعة ثابتة أنه مدسوس من "المخابرات"، كي تعرف موقفنا من البلد مما يؤثر على منحنا الجنسية لاحقاً. الكثير من اللاجئين السابقين أكدوا مثل هذا التوقع، وقالوا لي: المواطنون الهولنديون كلهم مخابرات، وبما أنني قادم من بلاد تعشق نظرية المؤامرة فقد صدقتُ نبوءتهم!
وفي غمرة شرودي بالملك ألكسندر وزوجته مكسيما الأنيقة، إذ بالشيخ يكرر غير مرة الدعاء للملك، ويختم بذكر اسمه!
لم أتمالك نفسي، فصرخت: ما علاقة ذلك الملك العربي الذي تدعو له بهولندا؟
لم يلتفت الإمام إلى صرختي، فيما استمر المصلون بالتأمين على دعائه.
قلت: بعد نهاية الصلاة لن أفوت على نفسي فرصة الحوار مع الشيخ، لعل لديه معرفة تزيدني علماً، ولعل لديه أسباباً لا أعرفها للدعاء لملك في بلد آخر!
سألته سؤال طالب العلم، مخفضاً عيني في حضرة عالم، وإذ بالشيخ يخبرني أن هذه البلاد ليست بلاد إقامة، هذه بلاد ضرورة، أجبرتنا عليها الظروف، وملكـ (هم) ليس ولي أمرنا لندعو له!
وبلغة الراغب بالعلم سألت الشيخ: وما هي سمات بلاد المسلمين؟
فقال: أن تقام بها الصلاة خمس مرات!
سألت الشيخ: هذه البلاد تقام بها الصلاة، والناس أحرار في خياراتهم الدينية ما داموا لا يتدخلون بشأن الآخرين، انظر إلى هذه القرية فيها جامع وكنيسة وكنيس؟
فرد الشيخ: يا بني! أنت جديد على هذه البلاد، وربما لا تزال مبهوراً فيها، هذه البلاد ممتلئة بالفسق! ستكتشف يوماً أنها ليست دار إقامة! حتى الآن يطلب الكثير منّا إذا مات أن يُدفن في أرض أجداده وليس في هذه البلاد!
سألت الشيخ: لماذا لا تترك هذه البلاد يا شيخنا وتعود إلى وطنك الجميل، ربما ستخفف المعاناة على أبنائك في نقل جثمانك إذا ما متَّ!
غير أن الشيخ لم يستمع إلى سؤالي، نظر إلى ساعته، وقال: تأخرتُ عن عملي، في هذه البلاد يحترمون الوقت كثيراً، أنت لا تعرف هذه البلاد، أنت جديد عليها!
استبعدتُ فكرة شريرة خطرتْ ببالي، ماذا لو قام أحد المصلين وقال: هل يجوز الدعاء لملك نصراني؟
لكن بالتأكيد سيردّ عليه مصل آخر: هو وليّ الأمر، ويجب أن ندعو له، هذا نوع من الشكر لبلاد استقبلتنا وقدمت لنا ضروريات الحياة.
وربما سيطلب آخر من الإمام: أرجوك لا تنس البطانة الصالحة! من حسن حظنا أن البطانة الصالحة في هذه البلاد ليسوا رجال مخابرات بل القوانين هي البطانة الصالحة!
قبل نهاية الدعاء، طمأننا الإمام: الملك يُحبكم، ويحرص عليكم، ويتمنى لكم الخير.
كدتُ أن أصيح: ونحن نحبه، ونشكره!
لكن تداركت: لن يقدّر بعض المصلين كلامي مع الإمام، ربما لا يعرف جلّهم أن أصل الخطبة في الإسلام الحوار والنقاش، وليس الوعظ. ذكرتُ نفسي بالقول: عليك أن تحافظ على الأعراف!
وحين كرر الإمام قوله: الملك يحبكم ويحييكم فرداً فرداً، رنتْ في بالي ذكرى كريهة قادمة من أيام المعسكرات الشبيبية التي أُجْبِرَ عليها الطلاب السوريون فترة طويلة، وكان ثمة عضو قيادة قطرية من حزب البعث في سورية يجول على تلك المعسكرات ويبدؤها بالقول: جئت لأنقل لكم تحيات السيد الرئيس، فيرد عليه الشباب بالهتاف بحياة القائد، ظناً منهم أن السيد الرئيس يعرفهم واحداً واحداً ويبلغهم تحياته.
لم تكن تلك الذكرى مريحة. شتان شتان بين ملكنا الهولندي وزوجته الجميلة الأنيقة أرجنتينية الأصل، مكسيما، وذلك الطاغية المأفون. يشكل الملك والملكة في هولندا حالة أقرب إلى الفرح، أقرب إلى التقاليد الثقافية والمزاح، والبعد البروتوكولي، فالملك في وطني الجديد يملك ولا يحكم، لكنه محبوب، ينتمي إلى عائلة تفوح من ذكراها البطولة والمحبة والصبر، بما أن أجداده منذ مئات السنوات قد أسهموا في تحرير البلاد والدفاع عنها من الاحتلال الإسباني أيام الصراع الكاثوليكي البروتستانتي...باختصار: ها هنا إذا ذكر الملك تبتسم الوجوه، أما هناك فإذا ذكر الرئيس تحضر ذاكرة الرعب والخوف فتغيب الابتسامة!
وأذكر أن مدرس اللغة الهولندية أول وصولي إلى هذه البلاد، كان يبدأ الدرس بشتم الملك، كناية عن حرية التعبير! وكدتُ أن أصدق ذلك المدرس وأنخرط في حرية التعبير تلك، لولا نصيحة لاجئ خبير: لدي قناعة ثابتة أنه مدسوس من "المخابرات"، كي تعرف موقفنا من البلد مما يؤثر على منحنا الجنسية لاحقاً. الكثير من اللاجئين السابقين أكدوا مثل هذا التوقع، وقالوا لي: المواطنون الهولنديون كلهم مخابرات، وبما أنني قادم من بلاد تعشق نظرية المؤامرة فقد صدقتُ نبوءتهم!
وفي غمرة شرودي بالملك ألكسندر وزوجته مكسيما الأنيقة، إذ بالشيخ يكرر غير مرة الدعاء للملك، ويختم بذكر اسمه!
لم أتمالك نفسي، فصرخت: ما علاقة ذلك الملك العربي الذي تدعو له بهولندا؟
لم يلتفت الإمام إلى صرختي، فيما استمر المصلون بالتأمين على دعائه.
قلت: بعد نهاية الصلاة لن أفوت على نفسي فرصة الحوار مع الشيخ، لعل لديه معرفة تزيدني علماً، ولعل لديه أسباباً لا أعرفها للدعاء لملك في بلد آخر!
سألته سؤال طالب العلم، مخفضاً عيني في حضرة عالم، وإذ بالشيخ يخبرني أن هذه البلاد ليست بلاد إقامة، هذه بلاد ضرورة، أجبرتنا عليها الظروف، وملكـ (هم) ليس ولي أمرنا لندعو له!
وبلغة الراغب بالعلم سألت الشيخ: وما هي سمات بلاد المسلمين؟
فقال: أن تقام بها الصلاة خمس مرات!
سألت الشيخ: هذه البلاد تقام بها الصلاة، والناس أحرار في خياراتهم الدينية ما داموا لا يتدخلون بشأن الآخرين، انظر إلى هذه القرية فيها جامع وكنيسة وكنيس؟
فرد الشيخ: يا بني! أنت جديد على هذه البلاد، وربما لا تزال مبهوراً فيها، هذه البلاد ممتلئة بالفسق! ستكتشف يوماً أنها ليست دار إقامة! حتى الآن يطلب الكثير منّا إذا مات أن يُدفن في أرض أجداده وليس في هذه البلاد!
سألت الشيخ: لماذا لا تترك هذه البلاد يا شيخنا وتعود إلى وطنك الجميل، ربما ستخفف المعاناة على أبنائك في نقل جثمانك إذا ما متَّ!
غير أن الشيخ لم يستمع إلى سؤالي، نظر إلى ساعته، وقال: تأخرتُ عن عملي، في هذه البلاد يحترمون الوقت كثيراً، أنت لا تعرف هذه البلاد، أنت جديد عليها!