14 نوفمبر 2018
حين ينافق الإكليروس.. حين تُمتَهَن الكنيسة
نُشرت أخيرا أخبار عن انعقاد مؤتمر في مدينة باري الإيطالية، بدعوة من البابا فرانسيس، إلى بطاركة سورية ولبنان الكاثوليك والأرثوذكس للحوار بشأن إمكانية عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، وتشجيع تلك العودة وإيجاد سُبُل لتحقيقها. هذا لقاء مهم جداً وضروري، في ضوء جوهرية البحث في عملية تأمين عودة النازحين السوريين إلى أرضهم، واستعادتهم حضورهم وأرزاقهم وحقوقهم في بلدهم الأم، خصوصا في ضوء عملية الإفناء الممنهج والتغيير الديمغرافي المبرمج، وعملية تغيير هوية شعب سورية، وبنيته وتركيبته، كما يفعل النظام العنصري الفاشي في دمشق. ولا شك في أهمية دعوة البابا فرنسيس ونبلها، وهو الذي عودنا منذ وصل إلى الكرسي البابوي في روما، على تقديمه صورة ناصعة لخادم الكنيسة المسيحية أمام العالم من خلال التصاقه بآلام الإنسان وشقائه وحرمانه وعمله الكنسي لأجله.
ما يصدم في الأخبار التي تسربت عن اللقاء المدعو إليه، وما يدمى له الجبين حقاً، المواقف التي وردَ أنَّ بطاركة المشرق الحاضرين قد ردّدوها، ويبدو أنها كرّرت ببغائية الخطاب الممجوج والإرهابي والانعزالي نفسه، وقصر نظره والكراهية العمياء فيه، والذي طالما سمعناه منهم في السنوات الماضية: سورية يحكمها نظام "علماني تعدّدي" والبديل الوحيد الذي سيحل محله إذا ما سقط نظام حكم إسلاموي متطرّف، وأن السوريين غير جاهزين لعيش الديمقراطية (كأنهم ما زالوا بحاجة للعيش في ظل أنظمة وصائية استعلائية تتناسب مع المرحلة الذهنية والنضجية التي هم فيها). في المقابل، تفيد الأخبار بوقوف البابا موقفاً شديد النبل والأخلاقية، حين دعا إلى عودة اللاجئين وتشديده على انتقاد عنف النظام ودمويته وقمعيته ومواقفه النافية كرامة هؤلاء الناس، وكما أن البابا دأب على تسليطه الأضواء بشجاعة وصدق على الوضع الإنساني المأساوي الذي يعيشه الناس في سورية، ومنه في الجنوب حالياً، مشيراً إلى النزوح والاقتلاع الداخلي، وداعياً، كما درج مراراً، إلى وقف الحرب والعنف واحترام إنسانية السوريين.
مثير للعار والخيبة الشديدة أن نسمع أن بعض البطاركة الحاضرين ناهضوا البابا على كلامه هذا، واعتبروه متحيزاً، فقط لأنه رفض أن يلعب الدور الذي ما انفكّوا يلعبوه منذ بدأت الثورة، وبعدها الكارثة السورية، بتسويق أكذوبة "إما نظام الأسد أو نظام إسلاموي متطرّف".
في تلك المرحلة المصيرية في تاريخ الشعب السوري، آخر ما يحتاجه النازحون السوريون رجالات دين وقادة كنائس يعملون كسفراء وأبواق إعلامية في تلميع صورة نظام متهالك ومجرم وعدو للإنسانية، وإعادة تسويقه، بدل أن يعملوا على مخاطبة هذا النظام الذي يدعمونه حتى الموت دون سواه، إن كانت لديهم الشجاعة، لكي يوقف سعار التدمير والعنف والقتل
والتهجير، ولكي يقبل أولاً بعودة أهل سورية إليها، بصرف النظر عن ميولهم وخلفياتهم وتياراتهم ومعتقداتهم (رأينا رفض النظام وتملصه من السماح للنازحين في لبنان من العودة إلى سورية أخيرا).
في قلب معاناة سورية الفظيعة، نتوقع من خدّام المسيح وحاملي لواء رسالته أن يقولوا للنظام الذي يمتهنهم أن عليه أن يكون، حقاً وفعلاً وواقعاً وتطبيقاً، علمانياً وتعدّدياً، ويؤمن بالمساواة في ذهنيته وممارساته ومسؤولياته وقيمه أولاً، لكي يتمكن النازحون السوريون من العودة إلى سورية، والشعور بأنهم يستطيعون الوجود فيها، والانتماء لها، حتى ولو كانوا يعارضون النظام ويرفضون الانبطاح عند قدميه، كما يفعل البطاركة المذكورون.
في قلب أزمة الشعب السوري المصيرية والوجودية، على رجالات الكنيسة في سورية أن يشيروا، لا إلى خطورة حلول نظام إسلاموي متطرّف على مصير الشعب السوري وحياته فقط، بل أيضا إلى خطورة وجود نظام إقصائي عنصري غير علماني وغير تعدّدي وغير عادل، أسوأ من النظام النازي، وأكثر كراهيةً للآخر ووحشيةً تجاهه من أي نظامٍ عرفناه، وأن نظاما كهذا لا يمكن له أن يحتضن أي علمانيةٍ، أو يتيح أي مساواةٍ وتعدّد في سورية في الدرجة الأولى، حتى يسمح بمجرد التفكير بإمكانية عودة النازحين السوريين إلى بلدهم. نعم، لا يجب أن يوجد في سورية نظام إسلاموي متطرّف. ولكن، ليس في سورية أبداً نظام علماني وتعدّدي وعادل كذلك، وأي إنكار لهذا هو الكذب بعينه.
مخز وعار حقيقي على المسيحيين في المشرق (في سورية ولبنان) أن لا يحمل قادتهم الكنسيون صوت آلام الإنسان في المشرق، وأن لا يقولوا الحقائق ويعلنوها، وأن يفعل ذلك، في المقابل، المسيحي الغربي الجالس في الفاتيكان، وأن يكون هذا أكثر تحسّساً وتلمساً لعمق الجحيم الذي يتعرّض له الإنسان السوري في البلد المدمر الذي لا يحكمه سوى النظام الذي يقول عنه البطاركة المذكورون إنه "نظام علماني تعدّدي ويحقق المساواة".
أثبتت السنوات المنصرمة من عمر سورية وممارسات المسيحيين المشرقيين في ضوئها (سواء في سورية أو لبنان أو الدول الأخرى) أن الاعتقاد بأنَّ المسيحيين جماعةٌ متميزةٌ ومتفردةٌ في المشرق، وأنهم عنصر تغيير وتميُّز وأمثولة رسالة تطوير وتمدُّن وإصلاح في قلب المشرق، ما هي سوى أسطورة وحلم ليلة صيف. يواظب قيادات المسيحيين المشرقيين، بمن فيهم قياداتهم الروحية، على القول، بأفكارهم وخطاباتهم وممارساتهم لأهل المشرق وللعالم على حد سواء، إن المسيحيين المشرقيين مثل أهل المشرق عموماً، يحملون كل عقدهم وأمراضهم وعيوبهم ونواقصهم وعقوقهم وخوفهم من الآخر، وتمحورهم حول الذات، وخنوعهم لصاحب القوة والسلطة، واستعبادهم ذواتهم لكل من يساومهم على كرامتهم وحريتهم وضميرهم في مقابل وعد بالأمن والبقاء واستمرار العيش. في النهاية، كلنا مشرقيون، وكلنا نحتاج إلى ما دعا إليه البابا فرنسيس، وتجاهل مجرد ذكره البطاركة المشرقيون: كرامة وإنسانية وتعاطف مع الإنسان في سورية والمشرق، وليس تعاطفاً مع أنظمةٍ وتسويقاً لها.
ما يصدم في الأخبار التي تسربت عن اللقاء المدعو إليه، وما يدمى له الجبين حقاً، المواقف التي وردَ أنَّ بطاركة المشرق الحاضرين قد ردّدوها، ويبدو أنها كرّرت ببغائية الخطاب الممجوج والإرهابي والانعزالي نفسه، وقصر نظره والكراهية العمياء فيه، والذي طالما سمعناه منهم في السنوات الماضية: سورية يحكمها نظام "علماني تعدّدي" والبديل الوحيد الذي سيحل محله إذا ما سقط نظام حكم إسلاموي متطرّف، وأن السوريين غير جاهزين لعيش الديمقراطية (كأنهم ما زالوا بحاجة للعيش في ظل أنظمة وصائية استعلائية تتناسب مع المرحلة الذهنية والنضجية التي هم فيها). في المقابل، تفيد الأخبار بوقوف البابا موقفاً شديد النبل والأخلاقية، حين دعا إلى عودة اللاجئين وتشديده على انتقاد عنف النظام ودمويته وقمعيته ومواقفه النافية كرامة هؤلاء الناس، وكما أن البابا دأب على تسليطه الأضواء بشجاعة وصدق على الوضع الإنساني المأساوي الذي يعيشه الناس في سورية، ومنه في الجنوب حالياً، مشيراً إلى النزوح والاقتلاع الداخلي، وداعياً، كما درج مراراً، إلى وقف الحرب والعنف واحترام إنسانية السوريين.
مثير للعار والخيبة الشديدة أن نسمع أن بعض البطاركة الحاضرين ناهضوا البابا على كلامه هذا، واعتبروه متحيزاً، فقط لأنه رفض أن يلعب الدور الذي ما انفكّوا يلعبوه منذ بدأت الثورة، وبعدها الكارثة السورية، بتسويق أكذوبة "إما نظام الأسد أو نظام إسلاموي متطرّف".
في تلك المرحلة المصيرية في تاريخ الشعب السوري، آخر ما يحتاجه النازحون السوريون رجالات دين وقادة كنائس يعملون كسفراء وأبواق إعلامية في تلميع صورة نظام متهالك ومجرم وعدو للإنسانية، وإعادة تسويقه، بدل أن يعملوا على مخاطبة هذا النظام الذي يدعمونه حتى الموت دون سواه، إن كانت لديهم الشجاعة، لكي يوقف سعار التدمير والعنف والقتل
في قلب معاناة سورية الفظيعة، نتوقع من خدّام المسيح وحاملي لواء رسالته أن يقولوا للنظام الذي يمتهنهم أن عليه أن يكون، حقاً وفعلاً وواقعاً وتطبيقاً، علمانياً وتعدّدياً، ويؤمن بالمساواة في ذهنيته وممارساته ومسؤولياته وقيمه أولاً، لكي يتمكن النازحون السوريون من العودة إلى سورية، والشعور بأنهم يستطيعون الوجود فيها، والانتماء لها، حتى ولو كانوا يعارضون النظام ويرفضون الانبطاح عند قدميه، كما يفعل البطاركة المذكورون.
في قلب أزمة الشعب السوري المصيرية والوجودية، على رجالات الكنيسة في سورية أن يشيروا، لا إلى خطورة حلول نظام إسلاموي متطرّف على مصير الشعب السوري وحياته فقط، بل أيضا إلى خطورة وجود نظام إقصائي عنصري غير علماني وغير تعدّدي وغير عادل، أسوأ من النظام النازي، وأكثر كراهيةً للآخر ووحشيةً تجاهه من أي نظامٍ عرفناه، وأن نظاما كهذا لا يمكن له أن يحتضن أي علمانيةٍ، أو يتيح أي مساواةٍ وتعدّد في سورية في الدرجة الأولى، حتى يسمح بمجرد التفكير بإمكانية عودة النازحين السوريين إلى بلدهم. نعم، لا يجب أن يوجد في سورية نظام إسلاموي متطرّف. ولكن، ليس في سورية أبداً نظام علماني وتعدّدي وعادل كذلك، وأي إنكار لهذا هو الكذب بعينه.
مخز وعار حقيقي على المسيحيين في المشرق (في سورية ولبنان) أن لا يحمل قادتهم الكنسيون صوت آلام الإنسان في المشرق، وأن لا يقولوا الحقائق ويعلنوها، وأن يفعل ذلك، في المقابل، المسيحي الغربي الجالس في الفاتيكان، وأن يكون هذا أكثر تحسّساً وتلمساً لعمق الجحيم الذي يتعرّض له الإنسان السوري في البلد المدمر الذي لا يحكمه سوى النظام الذي يقول عنه البطاركة المذكورون إنه "نظام علماني تعدّدي ويحقق المساواة".
أثبتت السنوات المنصرمة من عمر سورية وممارسات المسيحيين المشرقيين في ضوئها (سواء في سورية أو لبنان أو الدول الأخرى) أن الاعتقاد بأنَّ المسيحيين جماعةٌ متميزةٌ ومتفردةٌ في المشرق، وأنهم عنصر تغيير وتميُّز وأمثولة رسالة تطوير وتمدُّن وإصلاح في قلب المشرق، ما هي سوى أسطورة وحلم ليلة صيف. يواظب قيادات المسيحيين المشرقيين، بمن فيهم قياداتهم الروحية، على القول، بأفكارهم وخطاباتهم وممارساتهم لأهل المشرق وللعالم على حد سواء، إن المسيحيين المشرقيين مثل أهل المشرق عموماً، يحملون كل عقدهم وأمراضهم وعيوبهم ونواقصهم وعقوقهم وخوفهم من الآخر، وتمحورهم حول الذات، وخنوعهم لصاحب القوة والسلطة، واستعبادهم ذواتهم لكل من يساومهم على كرامتهم وحريتهم وضميرهم في مقابل وعد بالأمن والبقاء واستمرار العيش. في النهاية، كلنا مشرقيون، وكلنا نحتاج إلى ما دعا إليه البابا فرنسيس، وتجاهل مجرد ذكره البطاركة المشرقيون: كرامة وإنسانية وتعاطف مع الإنسان في سورية والمشرق، وليس تعاطفاً مع أنظمةٍ وتسويقاً لها.