حين يكون للجنون طعم لذيذ

11 مايو 2015
لا تفعل شيئاً سوى البكاء (فرانس برس)
+ الخط -

كانت تبكي بحرقة. كان بكاؤها يتردّد في أرجاء البيت. لم تكن تخشى أن يسمعها أحد. لم تكن تفكر في الأمر أصلاً. كانت غارقة في دموعها التي لم تجففها علبة محارم ورقية كاملة. ليس من سبب محدد يدفعها إلى كل هذا البكاء. قد يكون هناك ألف سبب. ولكنها عاجزة أن تحدد واحداً على الأقل.

لقد مضى وقت طويل على جلوسها على حافة السرير، لا تفعل شيئاً سوى البكاء. وكأنها تغسل روحها من التصاقات الأيام وخيباتها. لم يكن الأمر، ربما، كذلك. لم تكن الأسباب، في الأرجح، مُعقدة إلى هذا الحد. ليس مهماً لماذا تبكي. إنها تبكي وحسب. هو ليس بكاء عادياً ولا صامتاً، بل إنه أشبه بصراخ تجاوز زجاج النوافذ السميك ونفذ إلى الشارع.

لم تعر الأمر أدنى انتباه. لم يخطر في بالها أن من قد يسمعها سيهرع ليسألها عما أصابها. سيقلقه حالها، وستنفضح أمامه مشاعر الحزن والأسى التي تعتريها. بكاؤها سيلقى كل التعاطف ممن حولها. حتى أولئك الذين لا يعرفونها، سيتأثرون لحالها.

في مكان آخر، ربما في المبنى نفسه، وقد يكون في الشقة المجاورة، كانت هناك امرأة تضحك وحيدة. انهمرت دموعها من شدة الضحك. ضحك من القلب. كان صدى قهقهاتها مسموعاً بوضوح خارج جدران بيتها. تنبهت فجأة للأمر. تلفتت يميناً ويساراً كأنها تتأكد من أنها وحيدة، ومن أن ليس هناك من يسمع ضحكاتها. حاولت أن تقمع ضحكتها، أن تبتلعها. خافت أن تُتهم بالجنون. ماذا سيحصل لو سمعها الجيران؟ ماذا لو طرق أحدهم بابها ووجدها غارقة، وحيدة، في ضحكها. لا بد أن الأمر سيثير ريبته. سيهزأ منها في قرارة نفسه. وقد يقول لها بانفعال: "هل جُننت؟". لن تجد هذه التهمة مريبة. هي لا ترى نفسها خارج إطار الخلل العقلي حين تفعل ذلك، وإن كان هناك ما يضحكها فعلاً.

أن يضحك المرء وحيداً، وإن كان هناك سبب وجيه للضحك، كأن يشاهد فيلماً كوميدياً مثلاً أو يتذكر طرفة سمعها في وقت سابق، أمر مستهجن، لا بل لا يمكن أن يحدث من دون أن يتّهم صاحب هذا الموقف بأنه فقد عقله. لن تزعجه التهمة، بل سيوافق عليها بكل رضى. ولكن أن يبكي وحيداً من دون سبب واضح، فالمسألة ستبدو طبيعية، ولن تستدرج أقله أي اعتراض أو تشكيك بالقدرات العقلية لصاحب الدموع الحزينة، بل كل التعاطف والحب.

لماذا؟ قد يستدعي هذا شرحاً طويلاً في علم النفس، وقد تأتي الإجابات مبسّطة ومُقنعة أو معقّدة ومُنفرة. ولكن بين أن نضحك وحيدين ونتهم بخفّة العقل والجنون، وبين أن نبكي وحيدين أيضاً ونحظى بكل الدعم والتعاطف، لا مانع في أن نتحول إلى مجتمع سمته البارزة هي الجنون، وخصوصاً حين يكون لهذا الجنون طعم لذيذ.
دلالات
المساهمون