حين يتحدث الأميركيون عن معجزة الاقتصاد الصيني

16 يونيو 2015

طالبان في كلية الطب في جامعة بكين (يوليو/2014/Getty)

+ الخط -
يذهب روبرت فوغل، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو، والحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد في 1993، إلى أن إجمالي الناتج المحلي للصين سيصل في العام 2040 إلى 123 تريليون دولار أميركي، أي إلى ما يعادل ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي الأميركي في العام 2000. 
في ذلك الوقت المتوقع، سيصل متوسط دخل الفرد الصيني إلى 85 ألف دولار، والمتوقع أنه سيكون أكثر من ضعف متوسط دخل الفرد في الاتحاد الأوروبي في العام 2040، وأكثر بكثير من متوسط دخل الفرد في الهند واليابان. بعبارة أخرى، عندما تطورت وتتطور الصين، من دولة نامية في العام 2000 إلى دولة غنية متفوقة في 2040، سيعيش السكان في المدن الكبيرة في بلاد كونفوشيوس حياة غنية أفضل من مواطني فرنسا العاديين بضعفين.
وعلى الرغم من أن الصين لا يمكنها أن تتجاوز مستوى الولايات المتحدة الأميركية في ترتيب متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في ذلك الوقت، فإن روبرت فوغل يتوقع أن تحتل الصين 40% من إجمالي الناتج المحلي العالمي بعد 30 سنة، بينما سيكون نصيب الولايات المتحدة 14% والاتحاد الأوروبي 5%. ولا تتطرق أغلبية التحليلات التي تتناول نمو الاقتصاد الصيني إلى هذه النقطة المحورية، بل تطرح دائما آراء غامضة، ولا معنى لها. وفي الوقت عينه، كثيراً ما تقلل من مدى وسرعة صعود الصين في هذا المضمار. مثالاً، توقع تقرير بحثي حديث لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنه بحلول العام 2050، سيكون إجمالي حجم الاقتصاد الصيني أكثر 20% فقط من حجم اقتصاد الولايات المتحدة. ولا يمكن لمثل هذا التقرير تأكيد القوة الكامنة خلف إنجازات الصين الاقتصادية في السنوات الأخيرة، ولا يستطيع، بالتالي، إدراك دور مثل هذا التوجه في تشكيل مستقبل الصين، حتى إن البيانات الاقتصادية الصينية تقلل من الناتج الاقتصادي الواقعي في بعض المجالات.
في الوقت نفسه، وبسبب تأثير معدل الإنجاب الإلزامي المنخفض في الصين، سينتهي، في رأي الاقتصادي الأميركي فوغل، العصر الذي تكون فيه أوروبا قوة محركة مؤثرة على الاقتصاد العالمي، وتواجه التدهور النسبي. وفي حال مشابهة، سيصبح المنحنى الاقتصادي (economic curve) أكثر بروزاً من توقعات معظم التقارير الاقتصادية. انخفاض معدل الإنجاب وانحسار النزعة الاستهلاكية في أوروبا، يعني أنه، بعد ثلاثين سنة، ستنخفض نسبة إسهامها في الناتج المحلي العالمي إلى ربع نصيبها الحالي. إذا حدث ذلك، (وهو سيحدث في رأي فوغل) سيكون حجم اقتصاد الدول الخمس عشرة التي شكلت الدفعة الأولى من أعضاء الاتحاد الأوروبي يعادل ثُمن حجم الاقتصاد الصيني.
هذا هو، على ما يبدو، التغير الذي سيراه جيل البشرية المقبل في الصين، وسيكون أسرع بكثير مما يتوقعه. والسؤال الأهم الآن: ما الذي جعل الصين تحقق مثل هذا النجاح المعجز؟ يجيب الأميركي المكرّم بجائزة نوبل للاقتصاد بأنه كثيراً ما يتجاهل الناس العامل الأساس الأولي، وهو الاستثمار الصيني الضخم في التعليم، فالعمال الأكثر تعليماً هم العمال الأكثر امتلاكاً لقدرة الإنتاج. وكما تحدث فوغل، تظهر البيانات الأميركية أن مستوى إنتاج العمال من خريجي الجامعات الصينية هو ثلاثة أضعاف إنتاج العمال من ذوي المستوى التعليمي الإعدادي فالأقل. وأن مستوى إنتاج العمال من ذوي مستوى التعليم الثانوي يعادل ضعفي مستوى عمال جماعة التعليم الإعدادي، أو أقل. وهكذا ارتفعت بسرعة نسبة دخول المرحلتين، الثانوية والجامعية، في الصين، بفضل زيادة الحكومة استثمارها في مجال التعليم.
في 1998، دعا رئيس الصين إلى تحقيق زيادة كبيرة في معدلات الالتحاق بالتعليم العالي. وفي تلك السنة التي أطلقت فيها هذه الدعوة، كان عدد طلاب الجامعات في الصين 4.3 ملايين. وبعد أربع سنوات، ازداد عدد طلاب الجامعات الصينية 165%، وازداد عدد الطلاب الوافدين 152%، ما يعني أنه بين عامي 2000 و2004، ازداد عدد الطلاب في الجامعات الصينية نحو 50%.
ويتوقع روبرت فوغل أن تستخدم الصين مرحلة الجيل المقبل لزيادة عدد الطلاب في المرحلة الثانوية نحو 100%، وزيادة عدد الطلاب في الجامعات نحو 50%، ما سيزيد نسبة النمو الاقتصادي الصيني السنوي أكثر من ست نقاط مئوية. إن هدف رفع نسبة التعليم العالي الصيني ليس بعيداً، وينبغي التذكّر، هنا، أن بعض دول أوروبا الغربية حققت زيادة في معدلات الالتحاق بالجامعات بنسبة 25-50% في السنوات العشرين الأخيرة من القرن العشرين.
وهكذا، لا يؤدي ارتفاع مستوى تعليم العمال الأفراد إلى ارتفاع مستوى الأيدي العاملة فقط، وإنما أيضاً إلى ارتفاع قدرة إنتاج الشركات، وفقاً لنظرية علوم الإدارة الاقتصادية للعالم الاقتصادي الأميركي، أدوين مانسفيلد، فقد أورد، في دراسة نشرها في العام 1971، أنه، بالمقارنة مع مديري الشركات الذين يتسمون ببطء الإحساس بالإصلاح والتجديد نوعاً ما، لوحظ أن مديري الأعمال الأصغر سناً، والأعلى تعليماً، يمكنهم أن يقبلوا ويستخدموا التكنولوجيا الجديدة المعقدة.
من جهة أخرى، يُذكّر روبرت فوغل بالأرياف الصينية التي تشهد إصلاحات وتغيرات هائلة، فيرى أنها باتت محركاً اقتصادياً مهماً، لم يجذب اهتمام الناس للتنمية الاقتصادية الصينية بعد. ومن شأن ذلك أن يُصلّب من حراك التجربة الاقتصادية الحضرية سريعة التناوب، راهناً ولاحقاً أيضاً، ولا يشكل، بالتالي، للدولة الصينية أي كوابح، أو أزمات داخلية مربكة لعملية التخطيط والتنمية المستدامة.
فوق هذا وذاك، يحب المفكر الاقتصادي الأميركي، ريتشارد غاين، أن يُذكّر كل من يهمه الأمر بأن وراء نجاح الاقتصاد الصيني، بل تفوقه على الاقتصادات العالمية كافة اليوم، مدماكاً أخلاقياً عالياً تتصف به الشخصية الصينية منذ القدم، وتحديداً منذ أواخر فترة الممالك الصينية المتحاربة وأوائل فترة أسرة هان (475 ق. م - 221 ق. م)، وهي الفترة التي تبلور فيها مفهوم القيم العملية والسامية في المجتمع الصيني القديم. فلقد ظهر وقتها مفهوم الاستقامة - الربح، وكان له تأثيره العميق على الناس ونجاحهم الاقتصادي، واستمر إلى اليوم، حيث أطلق الرئيس الصيني الحالي، شي جين بينغ، في 2013 مبادرة بإطلاق "طريق الحرير االبحري للقرن الـ21"، لمزيد من تعزيز الاقتصاد الصيني الذي يشهد نمواً قياسياً غير مسبوق عالمياً، مسلحاً طبعاً بثقة مطلقيه وإعجاب متلقيه.

وكان المفكر الصيني الشهير شيون تسي (223 ق. م - 280 ق. م)، ممثل الكونفوشية في المرحلة الأخيرة من فترة الممالك المتحاربة، والجامع، إلى حد ما، بين الكونفوشية والطاوية، قد تطرق إلى معادلة السيطرة على الربح بالاستقامة، فرأى أن لها تأثيراً كبيراً على المجتمع الصيني بعد أسرتي تشين وهان. ورأى أن لأقنومي الاستقامة والربح مطلق الضرورة للناس.. "وحتى الحكماء العظماء، من مثل ياو وشون، لا يمكنهم أن يخلّصوا الناس من رغبتهم في السعي وراء الربح. وحتى أكثر الرجال قسوةً، مثل جيه وتشو، لا يمكن لهم أن يخلّصوا الناس من رغبتهم في إقامة الحق. الاختلاف الوحيد أنه تحت حكم ياو وشون (أوائل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد)، كانت قلوب الناس المحبة للربح طاغية على قلوبهم المقيمة للعدل. ومن ثم، فإنه بالنسبة إلى عامة الناس، لا بأس أن يسعوا إلى الربح. ولكن، عليهم أن يلتزموا ببعض المبادئ الأخلاقية، لكي تكون أفعالهم في كسب الربح محافظة على الاستقامة الأخلاقية".
وفي إطار استشرافه بما يحصل اليوم في الصين منذ قرون، يقول المفكر شيون تسي: "إن انتصار الاستقامة على الربح يعني حكم العالم، وهزيمة الاستقامة أمام الربح تعني اضطرابه". لذا، كان دعا، وشدّد في دعوته، إلى "السيطرة على الربح بالاستقامة"، ويبدو أن الأجيال الاقتصادية الصينية استجابت لدعوته، على كرّ الأيام والتاريخ، وصولاً إلى زمننا هذا.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.