31 أكتوبر 2024
حينما اشترى العرب منظومة كذب
استدعى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مستشاره للشؤون العربية على عجل، وعندما دخل الأخير الى مكتب الرئيس، وجده فاتحاً يديه ورافعاً كتفيه والشرّر يقدح من عينيه، وما إن وصل المستشار إلى حافّة الطاولة التي يجلس عليها بوتين، حتى قذفه بورقةٍ كانت بيده، وقال بصوت غاضب: ما هذا يا سيادة المستشار؟، أنت لا تدرك أننا نخوض حروبا استراتيجية طاحنة في الشرق والغرب، ولدينا مشاريع جيوسياسية ضخمة، ونحتاج إلى أعلى درجات الجدّية والتركيز لإدارة الفرص والمخاطر الناتجة عن ذلك. وفي ذروة هذا الغمار، توصي سيادتك، وبرسالة عاجلة، بإنتاج منظومة كذبٍ تناسب البيئات العربية، وتؤكد أن هناك طلبات مستعجلة وكثيرة لهذا المنتج؟
حتى اللحظة، كان المستشار يقف شابكاً يديه على بطنه، يحمل ملفاً أسود بين يديه، ويبتسم ابتسامةً مرتبكة، وطلب الإذن بالكلام، وقد خرج صوتُه متحشرجاً. قال: يا سيدي، أرجو أن تمنحني الوقت لأشرح لك الأمر، التوصية التي أوردتها في الورقة التي كانت أمامكم هي خلاصة طلبات وصلت إلينا من غالبية وزارات خارجية البلدان العربية، يطلبون فيها أن نصدر كلاماً يلمح إلى عزمنا على الحد من النفوذ الإيراني في سورية. اعتقدنا، في البداية، أنهم يطلبون أفعالا حقيقية على الأرض، وبعد أن أبلغناهم أن من غير الوارد التضحية بالعلاقات النامية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتنازل عن كل ما حققناه حتى اللحظة من
إنجازات، وخصوصا في سورية، فقد جاء رد العرب أنهم يقدّرون هذا الأمر ويتفهمونه جيداً، وأنهم لا يقصدون ذلك بالضبط، بل شيئاَ يشبه الكذب، على أن يتم وضعه في إطار منظومة متكاملة، خصوصا أننا نحن الروس قد اشتهرنا في صناعة المنظومات والأطقم.
زمّ بوتين شفتيه، وراح ينقر بأصابعه على أطراف الطاولة، وبدا مستغرقاً في التفكير، وأشار بيده للمستشار ليجلس. طلب منه بهدوء، وبشكل منهجي، أن يشرح له الأمر بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً. هزّ المستشار رأسه، وسارع إلى فتح الملف الأسود، وقال: سيدي الرئيس، لخّصت معظم ما جاء في رسائل وزارات الخارجية العربية، وللمصادفة أن جميعها متشابهةٌ، من حيث العرض والمضمون. وبدأ المستشار في تلاوة ما جرى تلخيصه.
يقول العرب: الأشقاء الروس، اكذبوا علينا بأي شيء، قولوا لنا ما تريدون، نحن قرفنا من السوريين ومشكلاتهم وأوجاعهم ومطالبهم. لقد ذهبت وفودنا ومواطنونا إلى هناك. أكدوا أنهم لم يروا أثراً للحرب، وأنهم فوجئوا بأن السوريين يعيشون أحسن منا، نحن الذين لم تحصل لدينا حروب. كل شيء متوفر في أسواق دمشق وبأرخص الأسعار، والناس هناك يملأون المطاعم والحدائق، ويسهرون حتى الصباح. ويبدو، أيها الأشقاء، أننا وقعنا ضحية كذب وتزوير إعلامي، فقد أكد موفدونا، وهم من أصحاب الثقة، نقابيون وإعلاميون وكتاب، أنهم فتشوا في سورية عن دليلٍ واحدٍ لوقوع الحرب فلم يجدوه!
رفع المستشار رأسه، ليرى تأثير ما يقرأه على وجه بوتين، فوجد مزيجاً من إشارات استفهامٍ وتعجب، قد ملأت خريطة وجهه، غير أنه أشار له أن يكمل القراءة. تابع المستشار ما قال العرب لأشقائهم الروس: بدورنا، بحثنا وحلّلنا، واستوضحنا عن حقيقة ما حصل. قلنا لأنفسنا إن أفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة العودة إلى أرشيف الإعلام الحربي السوري. وبالفعل، وصلنا إلى الحقيقة التي غابت عنا، فلم يكن الأمر سوى حربٍ شنتها العصابات المسلحة على الدولة السورية التي وقفت، شعباً وجيشاً وقيادةً، في مواجهة هذا الهجوم الغاشم.
شعر المستشار المنهمك بقراءة النص بحركةٍ مفاجئةٍ تصدر عن بوتين، وعندما نظر إليه، وجده يحاول جاهداً كتم ضحكاتٍ تغالبه، وتابع: يقول العرب إنهم باتوا على علم بما حصل، لكن العوام في بلادهم يصرّون على أن إيران تقوم بتهجير السوريين وذبحهم على الهوية، وأنها تمارس عمليات تطهير ديمغرافي واسعة، وأنها، من هنا حتى عقد مقبل، ستكون قد غيّرت هوية سورية بالكامل، والمشكلة أن هؤلاء العوام يشكلون الأغلبية في بلادنا، وسنكون محرجين، لو أقدمنا على خطواتٍ انفتاحيةٍ، نريدها نحن بقوّة، مع نظام الأسد، ما لم يكن هناك ورقة نتسلح بها أمامهم، ولا توجد أوراق سوى صدور كذبةٍ منكم تؤكدون فيها أنكم ستعملون على الحد من نفوذ إيران، وتدعيم هذه الكذبة بكلامٍ لمصدرٍ مغفل مرّة، أو مصدرٍ يرفض الإفصاح عن نفسه مرّة أخرى، وتعليق على شاشة فضائية "روسيا اليوم"، أو تلميح عبر "سبوتنيك" عن جهودكم بهذا الاتجاه، وهذا ما نقصده بمنظومة الكذب.
كان المستشار قد انتهى من القراءة، حين استند بوتين إلى طاولة المكتب، واضعاً إبهامه تحت ذقنه وسبابته على صدغه، وإصبعه الوسطى تحت أنفه، قال لكننا تعودنا أن نصدر منظومات "إس إس" بمختلف أجيالها، ومنظومات صواريخ ودبابات وطائرات، أما منظومات كذب فهذا أمر مستجد علينا، ثم إننا ننتج كذباً لا بهدف التصدير، بل لترويج مشاريعنا ومنتجاتنا، للتغطية
على أعمالنا في الداخل والخارج، فالكذب ليس بضاعةً في نهاية الأمر، كما أن له خصوصية محدّدة، هو شيء يشبه البهارات الهندية، لا يمكن استهلاكه إلا مع أنواع من الأطعمة. وأردف، لكن على كل حال، إذا كان العرب مصرّين على ذلك، فيجب أن يكون بثمن وثمن مرتفع، نحن نبيع تقنياتٍ في نهاية الأمر، وجهد تقوم به ورش وشبكات ومختبرات.
في المساء، وحين كان بوتين مسترخياً على كرسيه أمام شرفة منزله البلورية المطلة على نهر الفولغا، وبعد يوم طويل من التفكير، قال لنفسه بصوتٍ مسموع: ويلٌ لأمةٍ ليس فيها أمثالك، يا فلاديمير، إنك تجعل حتى الكذب ثروةً، لكنه تذكّر فجأة مثل التوابل الهندية، وانتابه شعورٌ بالخوف من أن تغزو الأمم الخارجية روسيا للسيطرة على ثروة الكذب فيها، لكنه ضحك، وقال: هذا منتج لا يشتريه سوى العرب، وهم يشترون الوهم أيضاً. وفجأة صرخ على خادمه، قال له: من الآن، لا ترموا شيئاً من أحذيتي وملابسي الداخلية القديمة، حتى فضلاتي احتفظوا بها فثمّة من يشتريها.
... نشرت وسائل إعلام عربية أن عواصم عربية عديدة تلقت تطميناتٍ روسيةً من أعلى مستوى، تؤكد جدّيتها في تقليص النفوذ الإيراني، العسكري والسياسي، في سورية في مقابل أن يستأنف العرب نشاطهم الدبلوماسي في أسرع وقت مع نظام الأسد.
زمّ بوتين شفتيه، وراح ينقر بأصابعه على أطراف الطاولة، وبدا مستغرقاً في التفكير، وأشار بيده للمستشار ليجلس. طلب منه بهدوء، وبشكل منهجي، أن يشرح له الأمر بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً. هزّ المستشار رأسه، وسارع إلى فتح الملف الأسود، وقال: سيدي الرئيس، لخّصت معظم ما جاء في رسائل وزارات الخارجية العربية، وللمصادفة أن جميعها متشابهةٌ، من حيث العرض والمضمون. وبدأ المستشار في تلاوة ما جرى تلخيصه.
يقول العرب: الأشقاء الروس، اكذبوا علينا بأي شيء، قولوا لنا ما تريدون، نحن قرفنا من السوريين ومشكلاتهم وأوجاعهم ومطالبهم. لقد ذهبت وفودنا ومواطنونا إلى هناك. أكدوا أنهم لم يروا أثراً للحرب، وأنهم فوجئوا بأن السوريين يعيشون أحسن منا، نحن الذين لم تحصل لدينا حروب. كل شيء متوفر في أسواق دمشق وبأرخص الأسعار، والناس هناك يملأون المطاعم والحدائق، ويسهرون حتى الصباح. ويبدو، أيها الأشقاء، أننا وقعنا ضحية كذب وتزوير إعلامي، فقد أكد موفدونا، وهم من أصحاب الثقة، نقابيون وإعلاميون وكتاب، أنهم فتشوا في سورية عن دليلٍ واحدٍ لوقوع الحرب فلم يجدوه!
رفع المستشار رأسه، ليرى تأثير ما يقرأه على وجه بوتين، فوجد مزيجاً من إشارات استفهامٍ وتعجب، قد ملأت خريطة وجهه، غير أنه أشار له أن يكمل القراءة. تابع المستشار ما قال العرب لأشقائهم الروس: بدورنا، بحثنا وحلّلنا، واستوضحنا عن حقيقة ما حصل. قلنا لأنفسنا إن أفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة العودة إلى أرشيف الإعلام الحربي السوري. وبالفعل، وصلنا إلى الحقيقة التي غابت عنا، فلم يكن الأمر سوى حربٍ شنتها العصابات المسلحة على الدولة السورية التي وقفت، شعباً وجيشاً وقيادةً، في مواجهة هذا الهجوم الغاشم.
شعر المستشار المنهمك بقراءة النص بحركةٍ مفاجئةٍ تصدر عن بوتين، وعندما نظر إليه، وجده يحاول جاهداً كتم ضحكاتٍ تغالبه، وتابع: يقول العرب إنهم باتوا على علم بما حصل، لكن العوام في بلادهم يصرّون على أن إيران تقوم بتهجير السوريين وذبحهم على الهوية، وأنها تمارس عمليات تطهير ديمغرافي واسعة، وأنها، من هنا حتى عقد مقبل، ستكون قد غيّرت هوية سورية بالكامل، والمشكلة أن هؤلاء العوام يشكلون الأغلبية في بلادنا، وسنكون محرجين، لو أقدمنا على خطواتٍ انفتاحيةٍ، نريدها نحن بقوّة، مع نظام الأسد، ما لم يكن هناك ورقة نتسلح بها أمامهم، ولا توجد أوراق سوى صدور كذبةٍ منكم تؤكدون فيها أنكم ستعملون على الحد من نفوذ إيران، وتدعيم هذه الكذبة بكلامٍ لمصدرٍ مغفل مرّة، أو مصدرٍ يرفض الإفصاح عن نفسه مرّة أخرى، وتعليق على شاشة فضائية "روسيا اليوم"، أو تلميح عبر "سبوتنيك" عن جهودكم بهذا الاتجاه، وهذا ما نقصده بمنظومة الكذب.
كان المستشار قد انتهى من القراءة، حين استند بوتين إلى طاولة المكتب، واضعاً إبهامه تحت ذقنه وسبابته على صدغه، وإصبعه الوسطى تحت أنفه، قال لكننا تعودنا أن نصدر منظومات "إس إس" بمختلف أجيالها، ومنظومات صواريخ ودبابات وطائرات، أما منظومات كذب فهذا أمر مستجد علينا، ثم إننا ننتج كذباً لا بهدف التصدير، بل لترويج مشاريعنا ومنتجاتنا، للتغطية
في المساء، وحين كان بوتين مسترخياً على كرسيه أمام شرفة منزله البلورية المطلة على نهر الفولغا، وبعد يوم طويل من التفكير، قال لنفسه بصوتٍ مسموع: ويلٌ لأمةٍ ليس فيها أمثالك، يا فلاديمير، إنك تجعل حتى الكذب ثروةً، لكنه تذكّر فجأة مثل التوابل الهندية، وانتابه شعورٌ بالخوف من أن تغزو الأمم الخارجية روسيا للسيطرة على ثروة الكذب فيها، لكنه ضحك، وقال: هذا منتج لا يشتريه سوى العرب، وهم يشترون الوهم أيضاً. وفجأة صرخ على خادمه، قال له: من الآن، لا ترموا شيئاً من أحذيتي وملابسي الداخلية القديمة، حتى فضلاتي احتفظوا بها فثمّة من يشتريها.
... نشرت وسائل إعلام عربية أن عواصم عربية عديدة تلقت تطميناتٍ روسيةً من أعلى مستوى، تؤكد جدّيتها في تقليص النفوذ الإيراني، العسكري والسياسي، في سورية في مقابل أن يستأنف العرب نشاطهم الدبلوماسي في أسرع وقت مع نظام الأسد.