حيدر العبادي والخروج من إرثٍ ثقيل

16 اغسطس 2014
+ الخط -


عقب اجتياح داعش الموصل، صوّر مسؤولون أميركيون وإيرانيون وعراقيون معضلة العراق على أنها تقتصر على هذا التنظيم الإرهابي، وتتمحور حوله فحسب، غير أن التطورات السياسية اللاحقة أثبتت أن نوري المالكي مثّل مشكلة مستعصية للعراق، منذ ثماني سنوات من حكمه غير الميمون، وأن أداءه السلطوي الضيق أدى إلى ظهور داعش، ومن قبله شقيقاته، من تنظيماتٍ طائفيةٍ مسلحة، حتى أن ميليشياتٍ بعينها تدين له بالولاء وبالقيادة، مثل عصائب أهل الحق (المنشقة عن التيار الصدري، ونسب لها مقتدى الصدر مذابح وممارسات طائفية شائنة) وفيلق بدر.
ها هم الأميركيون والإيرانيون يباركون للرئيس المكلف، حيدر العبادي، تكليفه، ويعلنون دعمهم له، فيما رفض المالكي التنحي حتى مساء الخميس، على أنه سوف يستغل المهلة الممنوحة له وفق الدستور، فيواصل القيام بعمله على رأس حكومة تصريف أعمال، وله، ومن منظوره الفردي والمتسلط، أن يقوم بما يشاء من تصريف أعمال على طريقته.
وكما يدين المالكي بحكمه المديد إلى واشنطن وطهران (إضافة إلى تزوير الانتخابات وتسليط الميليشيات على معارضيه ومناطقهم وطوائفهم)، فإن الطرفين، الأميركي والإيراني، تلاقيا على الاستغناء عن خدماته، وعلى تكليف حيدر العبادي القيام بالحكم، وذلك بعد أيام من تصعيد الأخير نائباً لرئيس مجلس النواب. وترى طهران أن لا شيء تغير على معادلة التحكم بالدولة العراقية، فالرئيس المكلف ينتسب لحزب المالكي (الدعوة)، والتيار الشيعي الكبير (التحالف الوطني) سمّى الرجل، والأغلبية في البرلمان والحكومة ستظل على حالها، مسؤول الحرس الثوري الإيراني المكلف بملف العراق وسورية، قاسم سليماني، أبرأ ذمته، وبذل جهده في بغداد لإقناع المالكي بالتخلي طوعاً، لكن الأخير رفض.
أميركياً، تحول المالكي عبئاً على واشنطن، إذ لم يحقق أي نجاح في الملفين الأمني والسياسي، وتمدد داعش في عهده دليل على ضعفٍ شديد في قيادته، وعلى سوء استخدام الدعم الأميركي في العتاد والمعدات والتدريب للجيش العراقي، وعلاقته وطيدة أكثر مما يجب مع طهران ودمشق، وسيئة مع أربيل وتركيا والخليج وبقية العالم العربي، ولا يراعي الأقليات في بلده، وبينما يبدي احتراماً واهياً ولفظياً، لا سند له في الواقع تجاه مكونات الشعب العراقي، فإن ممثلي طائفته، وفي مقدمتهم المرجع السيستاني، رفضوا استمراره في منصبه.      


يسترعي الانتباه أن ارتياحاً واسعاً، شمل الإقليم والعالم، بتكليف شخصية أخرى، لتحل محل المالكي، على رأس السلطة التنفيذية، فالجميع يدركون، وأحياناً، من زوايا نظر مختلفة، أن وجود الرجل في موقعه جعل الآفاق مسدودة في بلاد الرافدين، ووفر بيئة خصبة للتطرف، إذ أنشأ دولة موازية للدولة، بدعم ميليشياتٍ بعينها. وبفعل سياساته قصيرة النظر، أطلّت، لأول مرة، دعوات علنية لتقسيم العراق، مع ما لذلك من انعكاسات خارج الحدود. وتشهد على ذلك مقاربته الأزمة في سورية، فقد قام بتصدير ميليشيات عراقية إلى ذلك البلد، وغضّ النظر عن شحنات أسلحةٍ بالطائرات من طهران إلى دمشق، ما أسهم في تعقيد الأزمة السورية التي سرعان ما ارتدّت على العراق الذي كان في الأصل في وضع سيئ، حتى بدا أن أزمات العراق القديمة والمتراكبة باتت معالجتها مرهونةً، في جانب منها، برؤية نهايةٍ للأزمة في سورية، وهو أمر ما زال بعيد المنال، بل ثمة تغذية راجعة ومتبادلة بين البلدين، وذات محمول شديد السوء.
وتفيد التقديرات الرائجة راهناً في العراق بأن التوتر السياسي والأمني لن يهدأ على التو، لكن الرفض الشامل لبقاء المالكي في موقعه سوف ينزع منه فرصة خلط الأوراق، بعد أن خسر رهاناته، من دون أن يكفّ عن الحديث عن شرعيته وتمسكه بالكرسي، حتى رضوخه وقبوله التنحي، وهو الآن بمنزلة زعيم ميليشياوي في منصب رئيس حكومة تصريف أعمال، في ظل انفضاض شعبي وحزبي، بما في ذلك حزبه عنه. لقد تدخل أولو الأمر في طهران مع صنيعتهم المالكي، ولم يسمحوا له، في جميع الأحوال، بزعزعة التحالف الشيعي، ركيزتهم للنفوذ في بلد الرشيد والمأمون، وسوف يسندون عبادي بالقدر الذي يقترب فيه إلى درجة الالتصاق من طهران، وبحسن سيره في هذه الدرب بالذات، وعلى نهج سلفه "المخلوع"، باتخاذ طهران مرجعية سياسية واستراتيجية عليا للشأن العراقي.
وأيا يكن الأمر، فإن مستقبل المناخ السياسي سوف يحدده أداء الرئيس المكلف، وما إذا كان يستطيع، وقبل ذلك، إذا ما كان يرغب حقاً في الانتقال بالعراق إلى عهد جديد يحمل صفة تمثيلية فعلية لغالبية العراقيين، ويقوم بتغليب ما هو وطني على ما هو حزبي وفئوي، وما إذا كان سيأذن باستمرار وجود الميليشيات على مختلف مللها ونحلها، أم سيعيد الاعتبار إلى السلاح الشرعي وحده، وتحت مظلة قانونٍ عام، يستظل به العراقيون في الحكم وخارجه. وما إذا كان سوف يتمتع بهذه الرؤية في مكافحة داعش، وكل الدواعش الأخرى، أم ستقيّده اعتبارات أخرى.
 للرجل فرصة كبيرة في اجتراح ما هو جديد، والالتقاء مع أشواق العراقيين في دولة مستقلة وعادلة، ترفع عالياً لواء المواطنة، لا بيارق الطوائف والمناطق والميليشيات. وتتمثل الفرصة في الترحيب الداخلي الواسع بتكليفه (ولو أن شطراً كبيراً من الترحيب مبعثه التفاؤل بالتخلص من المالكي بالتحديد)، وكذلك الترحيب الخارجي من سائر دول العالم، وفي منطقتنا بالذات، وهذا ما لم يتأتّ لسياسي عراقي قبله على هذا النحو في العقد الأخير، من دون إغفال أهمية السلوك الذي سوف تسلكه الزعامات السياسية والحزبية والاجتماعية، وخصوصاً في مفاوضات تشكيل الحكومة المرتقبة، وفي بلورة برنامج وطني (صُنع في العراق)، يلقى أكبر قبول، ويعكس أكبر قدر من التوافق،  تلتزم به الحكومة، ويسترشد به مجلس النواب، من أجل تدارك ما فات من فرص البناء والتنمية، ومعالجة الملف الأمني بصورة موضوعية وحازمة، تضع حداً لازدواجية السلطة والقوة، وتقفل ملف التهجير والتطهير الطائفي والمناطقي، والتنكيل السياسي بالمعارضين، وتحتكم إلى المصالح العليا للشعب والوطن.