حياة ما بعد الموت

14 ديسمبر 2014
ارتشف فنجان القهوة على شرفته من دونها (Getty)
+ الخط -
لم ترق له فكرة وجودها في هذا القالب الخشبي. حاول إعداد القهوة كأنّهم في خلوتهم الصباحية. وضع قطعتين من السكر في فنجانه ثم قام بتحريكهما جيداً، وارتشف ذاك المذاق الغريب. كانت "القهوة الحلوة" التي يتذوقها لأوّل مرّة في حياته، لكنّه لم يشعر بالفرق. ثلاثون عاماً وهو يردّد على مسامعها صباحاً: الحلو للحلو، بس القهوة أطيب سادة.

عادت به الذكريات إلى العام 1984 حيث كان يهمّ بنقل المصابين جراء انفجار ضخم هز العاصمة بيروت. وقفت خلف مكتبها بيدين مرتجفتين. طلبت من المسعفين إعطاءها أسماء الضحايا، فهي لم تتعوّد العمل وسط هذه الفوضى. بشكل لا إرادي، قام بإحصاء سريع للأسماء وقال لها: "خذي هذه الورقة، سجّلت جميع الأسماء، لكن هناك 6 جثامين مجهولة الهوية. كان وقع المشهد قاسياً على موظفة جديدة لم تبلغ الـ 20 عاماً بعد. بخبرة فاقت الـ 4 سنوات من العمل في نقل ودفن الموتى أدرك ارتباك تلك الصبية. ثلاثون عاماً على اللقاء الأوّل الذي أثمر عن زواج وأربعة أبناء وحفيدين. ثلاثون عاماً من الحياة مع الموتى، لم تسعفه على تقبّل فكرة موتها. ثلاثون عاماً وهو يرافق النعوش في سيارة نقل الموتى. طلبت الممرضة منه إغلاق النعش. حاول رفع التابوت وحده فعجز.
خرج خلف النعش المحمول على يد رجال الإسعاف. جلس في السيارة التي يعرفها جيداً. يعرف أنّها الرحلة الأخيرة لهما. طلب من أبنائه عدم مرافقته. همس في أذن أحدهم: أظنّ أنّ التراب سيدفئ أذنيها الباردتين. ارتبك أولاده وخافوا عليه ظناً أنّه بلغ حد الهذيان. ارتشف فنجان القهوة الحلوة على شرفته للمرة الأولى دونها. لن يذهب إلى العمل بعد اليوم. لن يكون صديقاً للموت.

لا صداقة مع خائن. حلق لحيته الخفيفة صباحاً. ارتدى بزة أنيقة. جلس في المقهى، وجلس ابن صديقه الراحل بقربه: معليش عم، الله بصبّر، أنت بالذات بتعرف شو الموت. دون أن يتخلى عن ابتسامته: لا موت بعد اليوم. اليوم سأحيا كي لا أرى خيانة أخرى لحياة أبنائي. سأحيا مطولاً لها لأنّ موتي سيقتل ذكراها، في موتي فقط تكون نهايتها.
دلالات
المساهمون