حياة رهينة ميتات في غير أوانها

03 سبتمبر 2015
+ الخط -
بين بينين أو أكثر، أو بين احتمالين أو أكثر، تختفي حياة بعض الناس، محتفية بموتها، بفقدانها الأمل بالنجاة أو.. باستمرار الحياة. هكذا، قسراً أو طوعاً، يذهب أبناء الحياة إلى قيعان النهايات المحتومة، والمآلات التي احتملت أكثر من موت محقق، بل وأكثر من حياة لم تتحقق لبعض الناس فيها سوى خيالات العدم، حيث في ظل صيرورة الغم ألم لا يُحتمل.
هكذا يهاجر أبناء الحياة إلى الموت في الأصقاع البعيدة، بينما يأتي "الأموات" إلينا بالمئات وبالآلاف، كي يؤكدوا موتهم، أو انتحارهم، في بلادنا الموبوءة بسلطات القتل اليومي ومجازر البراميل والمفخخات اليومية، والانتحارات الفردية والجماعية؛ فلا يكتب لهم الموت حياة جديدة، ولا تكتب الحياة لهم سوى باطل الأباطيل، والعبث اليومي بحياة الناس الأحياء. أما الأموات، وإذ يفتقدون أي طعم لحياة لهم في بلادهم، فعلى أمل أن تكون لهم حياة في أصقاع البلاد البعيدة؛ فلا هم نالوا الحياة هنا، ولا هم وصلوا ليجدوها هناك. وتلك قمة المأساة أو المآسي التي أصبحت حياتنا تترنح تحت ظلالها السوداء، وراياتها الأكثر سواداً.
تلك جدلية الحياة والموت المجدولة على صفحات اليأس الخالدة من البقاء تحت سقف الاستبداد السلطوي، وهو يتقنع بجلباب زعامات الطغيان والاستبداد السياسي مرة، أو بعمّة أو عمائم "الأمراء" و"الخلفاء" الذين باتوا يتناسلون من قيعان انحطاط أمةٍ، لم تعد تجد لتغزل في مغازلها سوى أجساد الناس الأحياء، والنهايات المحتومة في غير أوانها، متوهمين أن "قوة المقدس" حلت فيهم، ليجدوا ذواتهم أرباب الموت والانتحار والقتل والاقتتال في مصانع العنف الإرهابي المتوحش، وهو يقيم حفلات زار الموت غير الرحيم، ويذهب حتى الأقاصي في التنظير لأيديولوجيا إدارة صراع التوحش، ليس مع العدو، أو الأعداء المفترضين، بل مع أقرب المقربين. 
مات كثيرون هنا، وهم في أعدادهم أكبر وأكثر كثيراً ممن ماتوا في صراعنا مع العدو، وها هم يموتون أكثر في الطريق نحو بحر وبر الهجرة إلى المنافي التي تقود إلى الهلاك؛ هلاك الروح في الوطن، وهلاك الأجساد الواهنة في بلاد المن والسلوى والعسل.

عاش الموت فينا ومعنا زمناً طويلاً، وكان هذا طبيعياً أو شبه طبيعي. ما هو غير طبيعي، ويشكل اعتداءً سافراً على حق الإنسان في الحياة، ومجمل حقوقه الطبيعية والمكتسبة، الارتكابات الفاحشة، بدءاً من التكفير، وصولا إلى الممارسات والمسلكيات الوحشية، واستعمال التطرف الإرهابي وسيلة ترويعية وإرعابية ضد الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول، حتى لكأن بعض "أرباب المقدس" باتوا يستعجلون إماتتنا "رحمة ورأفة بنا"، معتقدين واهمين أنهم يقدمون لنا خدمة إنقاذية تخلصنا من ذنوبنا، ويا ليتهم تركونا ويتركونا نخلص أنفسنا بأنفسنا، من دون وكيل أو حسيب أو رقيب، هو بمثابة "شرطي يقدس نفسه"، ويعتبر الحسبة "حقه الشرعي" وأداته التي يجعل منها "السلطة المقدسة"، فارضاً علينا أحكامه وشرائعه ومفاهيمه وتأويلاته الخاصة، التي يراد لنا أن نزدردها أو نبتلعها غريزياً من دون تفكّر فيها، أو تفكير أو تمحيص عقلاني.
هكذا بتنا أمام هجرتين: هجرة الانتحار والانتحاريين، وهجرة الاضطرار والمضطرين، وهذه بمثابة طلب للحياة بامتياز، على عكس هجرة الموت الانتحاري، ووهم التسرّي بالحواري، ونكاح جهاد الجواري. ففي حين "تجاهد" هجرات الانتحار من أجل وهم تقريب الآخرة، أو استدعاء "المهدي" أو "المسيح المنتظر" أو "الماشيح"، من أجل عدل متوهم لنفي جور قائم، يتسع باضطراد التسلط الطغياني والاستبدادي، لمن لا حق له في استخدام حق الآخرين أو حقوقهم، حيث يشكل ذلك اعتداء سافراً حتى على تلك الحقوق المنصوص عليها في المرجعيات الدينية والتراثية أو التقليدية، في مجتمعات تقدس التقليد والقيم القبلية والعشائرية، وتجعل منها طواطمها وأيقوناتها المقدسة، وهي تنحاز لها على حساب انحيازاتها للنص الديني الذي قد يصبح ثانوياً، أو ثاوياً في أحيانٍ كثيرة، ليجري تعطيله، وكأنه لم يكن.
ما الذي يضطر المهاجر إلى الهجرة؟ أم أن هناك اختيارا اضطراريا يجعل من الهجرة، وكيفما اتفق، خياراً أخيراً للخروج من حال التأزم النفسي، أولا، ومن ثم حال الانسداد السياسي والاجتماعي، حيث الأفق لا ينبئ، هو الآخر، إلا بانغلاق "الآخرة"، وانفساحها من غير ما أمل باستمرار الحياة، حتى على عادياتها، تلك التي تدفع للمغامرة بالحياة، أو المقامرة بها على مذبح "الهجيج" الجماعي، أو الفردي، لمصائر لم تجد أمامها سوى الفرار إلى المجهول؛ ذاك الذي تحول إلى مقابر جماعية في البحر والبر، وصولاً إلى المحيط المتجمد الشمالي، في حين أن صرخة الجميع بلغت الآفاق.
دققنا جدران الخزان وجدران زنازيننا وسجوننا ومعتقلاتنا، وكل ما حاولوا حشرنا فيه منذ زمن بعيد، فلم يسمع أحد، مع أن صرخة الشعوب، وليس أفرادا أو جماعات منها، بلغت كل الآفاق، لكن المصالح هي الأقدس من حقوق البشر، والأمن الإسرائيلي الكولونيالي والاحتلالي والاستعماري للغرب هو الأقدس. فأين المفر؟ إن لم نمت هناك، لن نستطيع أن نحيا هنا في ظل فواعل الاستبداد والطغيان والديكتاتوريات الأمنية والعسكرية، وفواحش "الدواعش"، وميتاتهم المدنسة التي جعلت حياتنا ميتات دائمة، تحت مؤثرات "الخزيرانات" المختلفة؛ من أبو الخيزران العربي وحتى الغربي على امتداد القارة الأوروبية التي حوت وتحوي "خزيرانات" كثيرة، وأكثر مما نستطيع الإحصاء، أو "الإخصاء".

دلالات
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.