حياةٌ على أجنحة الحلم

04 ديسمبر 2015

فاطمة المرنيسي أيقونة معرفية في عوالم البحث والكتابة والجامعة

+ الخط -
غَيّبَ الموت، الإثنين الماضي، الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي، بعد حياةٍ غنية بالالتزام الثقافي، دفاعاً عن التنوير والاجتهاد والعقل، وبالإنتاج الفكري العميق الذي يُسائل الترات والمجتمع، منطلقاً من مثال الحرية وفكرة المساواة.
حياة بالمُفرد وحيواتٌ بصيغة التعدد حوّلت المرنيسي إلى أيقونة حقيقية، أيقونة معرفية في عوالم البحث والكتابة والجامعة، وأيقونة نضالية تكثف أحلام أجيالٍ مُتعاقبةٍ من النساء في رحلة مُضنيةٍ، بحثاً عن الحرية والعدالة.
رحلت الكاتبة والباحثة الاستثنائية، بعد أكثر من نصف قرنٍ من الإبداع والبحث، جعلها تُخلف تراكماً فريداً من الأعمال التي تُفكك، بمناهج النقد التاريخي، التأويل الذكوري للتراث الإسلامي، سواء وهي تشتغل على "الحريم السياسي" أو على "الجنس، الأيديولوجيا والإسلام"، أو وهي تعيد بعث "سلطانات منسيات". وتُنقب، من جهةٍ أخرى، بأدوات علم الاجتماع، عن حفريات التحول الثقافي والاقتصادي والمجتمعي الذي تعيشه نساء المغرب. وتستفيد من آليات الإنثربولوجيا والرّصد الميداني الدقيق، لتقدم صورةً أخرى عن "المغرب محكي عبر نسائه"، وتستند إلى فضائل النقد المزدوج، لتتعقب "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، أو تكتب في سِجلٍ آخر، بلغة الأدب والرواية، تخيلاتٍ ذاتية عن طفولتها داخل الدروب المُعتقة لمدينة فاس برفقة "نساءٍ على أجنحة الحلم".
شكلت طوال مسارها، في البحث والتأليف، نموذجاً مناقضاً تماماً للصورة النّمطية عن عُزلة المُثقف. ظلت تحرص على الاشتغال الميداني، مُنخرطةً في دينامية خلّاقة من التّعلم والإنصات. حاضرة في أنشطة الحركات النسائية، مُتنقلة بسلاسةٍ بين كُبريات العواصم والجامعات الدولية والمؤتمرات العالمية، وبين أرياف وقرى العُمق والهامش المغربي، في ما يُشبه حواراً مُمتداً وموصولاً مع الشباب والنساء؛ صُناع حركية الفعل الاجتماعي المُتجدد.
ولعل هذا ما عَمّق من معرفتها النبيهة بجوهر التّحولات التي طاولت المُجتمع المغربي، على مستوى البنيات والذهنيات، داخل الأسرة وقطاعات الشباب والنساء في المدن والقرى، ما جعلها، من جهةٍ أخرى، مثقفةً مُلهمةً للحركة النسائية المغربية، وإحدى مناراتها الفكرية والمرجعية التي واكبت لحظات تأسيسها وتحولاتها الكبرى في التأطير والتعبئة والترافع، وبناء المطالب والقضايا.
آمنت الرّاحلة بقوةٍ بالمعرفة جُهداً جماعياً، مبنياً على التّواضع والتّقاسم والتّكامل. لذلك، كثيراً ما انخرطت في ورشاتٍ جماعيةٍ للكتابة والتأليف، ولإنتاج الإشكاليات البحثية، والمسالك الجديدة للتفكير. وكثيرا ما رافقت، بكثيرٍ من المودة والتحريض، الباحثين الشباب في مشاريعهم في البحث والكتابة.
طرح المُنجز الفكري للرّاحلة صعوباتٍ جَمةً على مستوى التّصنيف. كتبت في قضايا المرأة، الهوية، الديمقراطية، الإسلام، والحداثة، مُستندة إلى أوليات التحليل السوسيولوجي، وقواعد القراءة التاريخية، وأصول التأمل في الأيديولوجيات وتحولات الأفكار.
والواقع أن الأفق الإشكالي لمُنجزها المتعدد في المُقاربات والغني في المرجعيات يجعل صعباً حصر اشتغالها داخل حقل علم الاجتماع، بحدوده المعرفية التقليدية، خصوصاً وهي تنفتح على أصول البحث التاريخي، أو التنظير الفكري في عدد من أعمالها، أو وهي تستفيد من مناهج الأنثربولوجيا، بإعادة التفكير في المجتمع المغربي، انطلاقاً من محكيات نسائه، أو من خلال القرب الميداني الذي دبّرته مع مجالات البحث وقضاياه.
ترتبط أصالة مشروعها الفكري، بالأساس، بعدم رهن أبحاثها الأولى بمجرد نوعٍ من إعادة إنتاج النظرة الاستشراقية التبسيطية لموقع المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية، حيث المُحدد الوحيد للشرط النسائي يتجلى في الإسلام. وهو ما مكّنها من ممارسة ما كان يسميه الرّاحل عبد الكبير الخطيبي النقد المزدوج، مُتخلصةً من عُقدة النظر إلى الآخر، في العلاقة مع الغرب، خصوصاً من خلال رصدها موقع المرأة داخل المُجتمعات الغربية، وتمثلاته الأيديولوجية، بنظرةٍ تفكيكية صارمةٍ، بعيداً عن حالة الانبهار الانطباعي التي كثيراً ما حَدّت من أفق بعض الكتابات والأبحاث المُشتغلة على القضية النسائية.
لم يمنع الإسهام الثقافي والفكري المهم لفاطمة المرنيسي من أن يجعلها تبصمُ على مساهمةٍ بيداغوجية وتربوية غنية، كإحدى رائدات الدرس السوسيولوجي في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وهو الدرس الذي تميز عند الرّاحلة بحيوية التفاعل مع أجيالٍ من الطلاب الذين رافقتهم إلى عوالم جديدة، وفتحت مداركهم على أسئلة مُتجددة.

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي