حول منصّات توقيع الكتب

17 مارس 2016

من توقيعات الكتب في معرض الرياض (15مارس/2016/تويتر)

+ الخط -
بمناسبة معرض الرياض للكتاب، أرسلت إحدى الشركات التي تعمل في مجال النقل رسالة ترويجية إلى عملائها، تشجعهم على زيارة المعرض، ووجدت أنه من المناسب أن تختتم الرسالة بملاحظةٍ ساخرةٍ حول "من يذهبون للمعرض من أجل أكل الذرة". هذه المقولة التي تفسر الازدحام الهائل في المعرض أنهُ "تزاحم أشخاصٍ لا يقرأون، ولا يهتمون بالكتب، ويبحثون عن الأكل والتسلية حيث كانت"، لم تعد مجرد مقولة يردّدها مثقف أو كاتب، لقد تكرّرت بإلحاحٍ، حتى تحولت إلى "كليشيه" معروفة، وصورة ذهنية مقبولة، تستخدمها حتى الرسائل الدعائية للمعرض. خلال السنوات الماضية، تشكلت حول المعرض السنوي بنية واسعة من الكليشيهات الثقافية، ثم تشكلت حالة سخرية من هذه الكليشيهات الثقافية المبتذلة، ثم تشكلت بنية جديدة من الممارسات والمقولات، تحاول أن تؤكد على مفارقتها "الكليشيه" والابتذال، وهكذا. ليست كل هذه البنية من التنميطات والسخرية منها والتنميطات الجديدة مجرد ثرثرةٍ فارغةٍ من الهدف أو "نميمة ثقافية" يتبادلها رواد المعرض من الكُتّاب المعروفين والقرّاء الكبار ومحترفي العمل الثقافيّ، فالمعرض السنوي للكتاب هو، إن شئنا قول الصدق، المناسبة الوطنية الوحيدة التي يلعب فيها هؤلاء دور البطولة. معرض الكتاب هو ميدانهم الذي يعبّرون فيه عن "حقلهم الثقافي" واتجاهاته وتصنيفاته وتجاذباته وقوته ووهنه. على هذا الأساس، لا يمكن التعامل بإهمالٍ وتسطيحٍ مع ما تراكم على ضفاف المعرض، في الأعوام الماضية، من آراء ومقولات وكليشيهات بصرية ونوادر شفاهية وممارساتٍ وسلوكياتٍ نمطيةٍ تتكرّر سنوياً، بينما يمكن فهمها باعتبارها تعابير متنوعة عمّا يجري داخل هذا الحقل الثقافي، بكل من فيه.
بالإضافة إلى الكليشيه الذي يقول إن أغلب زوار المعرض هم من "آكلي الذرة"، لا "قـُرّاء الكُتب"، هناك الكليشيه الخاصّ بالسخرية من جامعي الكتب الذين لا يقرأون، ومن مُشتري الكتب الفلسفية الصعبة الفهم، وممن يستعرضون صور كتبهم المُختارة من المعرض، ثم هناك الكليشيه الذي يخصّ السخرية من اتّساع حركة التأليف والنشر، إذ صار "من هبّ ودبّ" مؤلفاً، يسابق الموعد السنوي للمعرض، لطرح كتابٍ جديد، كما هناك الامتعاض من ابتذال منصّات التوقيع التي يزداد عددها كل عامٍ، ويزداد عدد المؤلفين الراغبين في التقدّم لتوقيع مؤلّفاتهم، والتزاحم على المشاهير منهم، حتى وإن كانوا كُتاباً سيئين. يتبادل بعض القُرّاء والمثقفين التندّر بهذه الظواهر التي تحدث على ضفاف المعرض سنوياً، ويعبّر بعض الكُتاب عن احتجاجهم على ابتذال منصّات التوقيع، عبر الامتناع عن توقيع إصداراتهم الشخصية، ويمتنع بعضهم عن زيارة المعرض، أو عن شراء الكتب، تعبيراً عن ضجره من هذا الإقبال
الشعبوي الفارغ على الثقافة. تُساق جميع هذه المواقف عادةً ضمن خطابٍ تطهّري تنزيهي، يأخذ موقف الـمُدافع عن الثقافة وعن أصالة الإنتاج الثقافي وجدّيته وصرامة شروطه، ويظهر المثقفون أصحاب هذا الخطاب في صورة الـنّخب التي تحرس المكانة الرفيعة للثقافة وتذود عنها، ولهذا الخطاب قدرة كبيرة على الإقناع والهيمنة، فهو يبدو الأشدّ إخلاصاً للثقافة، وضنيناً بها على الابتذال، وشرساً مع الدخلاء والمتطفلين عليها. لكن، هذه طريقة واحدة فقط لقراءة هذا الخطاب، إذ هناك طريقة أخرى تقلبه تماماً. ففي ثنايا هذا الخطاب، المخلص للثقافة ولشروطها، يوجد توقٌ غير صريح إلى إبقاء الحقل الثقافيّ مغلقاً وحصرياً على النخب الثقافية، وعلى محترفي العمل الثقافي، ومن يحملون رأس مالٍ ثقافيّاً كبيراً، إلى حدٍ يكفي لمنحهم رخصة التأليف والنشر. لاحظ كيف أن الانزعاج لأن "من هبّ و دبّ" صار مؤلفاً تعني، من ناحية أخرى، افتراضاً نخبوياً أن التأليف لا يجب أن يمارسه إلا من نعرفهم سلفاً من مثقفين نعترف بهم. ولاحظ كيف أن وصم زوار المعرض بـ"آكلي الذرة" يعني، من ناحية أخرى، استكثار ممارسة القراءة، وبجدية ولهفةٍ على عموم الناس، والرغبة الدفينة في استبقاء القراءة (وامتلاك المعرفة ورأس المال الثقافي من ورائها) ممارسة خاصة بالنخب لا يستطيعها "العوام". ولاحظ كيف تعبّر "الأنفة" من ابتذال منصّات التوقيع، عن غضبٍ دفينٍ على "الخمس عشرة دقيقة من الشهرة" التي يحصل عليها الكُتّاب المغمورون والتي قد تكون الوحيدة في مسيرتهم الكتابية القصيرة، وعن افتراضٍ مُضمر يرفع منصة التوقيع إلى موضعٍ مقدّسٍ، لا يجوز أن يخطو إليه إلا الخاصّة. ولاحظ، بعد هذا كله، أن النخب حارسة الحقل حكمت بالرداءة على كُتّاب لم تقرأ كتبهم، وبالعجز عن القراءة والفهم على قرّاء لم تختبر جدّيتهم، وأن أغلب النقد الساخر لما يفعله الداخلون بكثرة إلى بوابة الثقافة من بوابات معرض الكتاب، هو مبنيٌ على أساس "الكثرة"، فالكثرة، في هذا الخطاب، تعني بالضرورة الرداءة، على الرغم من أنهما في الحقيقة، ليسا شيئاً واحداً. قد تبدو هذه القراءة مزعجة لكثيرين، لكن الحقل الثقافي، في النهاية، يخضع لشروطٍ، لا تختلف عن باقي الحقول التي تشهد صراعاً على السلطة وفرض الآراء وتجميع المكاسب الرمزية.
عند النظر إلى ظواهر معرض الكتاب من منظورٍ يتجاوز قلق المنافسة وحماية المكتسبات، يمكن بسهولة رؤية حقائق بسيطة، كأن ترى أن الكتابة والتأليف ليست أفعالاً مقدّسة وخاصّة، وافتراض ذلك هو على الضد من طبيعتها، وأن الكتب الرديئة، مهما تكاثرت، لا يمكنها أن تنتزع المكان الذي يستحقه كتابٌ جيد، وأن منصّات توقيع الكتب هي الجزء الصغير المبتذل من ظاهرة أكبر وأجمل، وأن التزاحم من أجل شراء الكتاب، أيّ كتاب، أمرٌ رائع، لأنه يمنح الفرصة لولادة مزيد من القُرّاء، ولأن القارئ ينتقل، بالتدريج، من الكتب السيئة نحو الكتب الجيدة، ولأن لكل كتابٍ قَدَره الخاصّ، فلا يعرف أحدٌ إلى يد من سينتهي، وفيمن وكيف سيؤثّر. إدراك هذا لا يعني هذا الترحيب بالكتب الرديئة، ولا بالمؤلفين التافهين، ولا التوقف عن نقدهما الضروري لدفع الرداءة، لكن إدراك هذا يعني التمييز العميق بين الحفاظ على الثقافة الذي يعني توسع الحقل الثقافي وبقاء أبوابه مفتوحةً، باستمرار أمام فاعلين جدد وأفكار وصراعاتٍ متجدّدة، والحفاظ على المثقفين ومكاناتهم ومكاسبهم الرمزية، ما لن يعني إلا إغلاق الحقل الثقافي.
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع