كان محمود في طريق عودته إلى منزل العائلة بمحافظة المنوفية، شمالي مصر، عندما تعرّض إلى حادثة سير خلّفت لديه إصابة في المخّ، الأمر الذي جعله يفقد الذاكرة. قبل ذلك، كان محمود، وهو تلميذ في المرحلة الثانوية، يتلقّى دروساً خصوصية في قرية مجاورة لقريته. وقع ذلك في بداية العام الدراسي الجاري، تحديداً في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ويحكي الوالد أنّ "أحمد الميكانيكي الذي كان متوجهاً إلى قريتنا، اصطحب محمود على درّاجته النارية. اصطدمت بهما سيارة نصف نقل (شاحنة بيك آب) فاختلّ توازن السائق، وارتطما بالتالي بإحدى الأشجار. توفي أحمد الميكانيكي، وقد يكون بذلك ارتاح من هموم الدنيا، أمّا ابني الوحيد (له ثلاث شقيقات) فقد نجا من الموت إنّما مع إصابة بالغة". يتابع الوالد أنّه "لا بدّ من أن يخضع محمود إلى جراحة تكلفتها 150 ألف جنيه مصري (نحو ثمانية آلاف و400 دولار أميركي)، لكنّني عامل بسيط وراتبي لا يتعدّى الألف جنيه (نحو 56 دولاراً). حاول عدد من الأشخاص مساعدتي غير أنّ ذلك لم يكن كافياً، فصرت أدعو أن يرحم الله وحيدي برحمته".
من جهته، يخبر نادر أنّ "والدي الذي يعمل حارساً في إحدى عمارات مدينة السادس من أكتوبر، خرج بدرّاجته النارية ليشتري الطعام، إذ إنّه دعا ضيوفاً من قريته في الفيّوم إلى تناول العشاء معه. لكنّنا سرعان ما سمعنا جلبة ورأينا أشخاصاً يركضون، فخرجنا من المنزل لنجد والدي وقد لقي حتفه بعدما صدمته سيارة خاصة". يضيف نادر أنّ والده "ترك وراءه سبع بنات، منهنّ من هي في سنّ الزواج. صرت معيلهنّ ومعيل والدتي التي لا تخفي قلقها، لا سيّما أنّ دخلي متواضع". ويشير إلى أنّه "للأسف، تمّ الإفراج عن صاحب السيارة من دون محاسبة، وحُمّل والدي المسؤولية كاملة لأنّه يركب درّاجة نارية".
أمّا العمّ محمد الذي كان يعبر الطريق الصحراوي بالقرب من المزرعة التي كان يحرسها، فقد دهسته سيارة قبل بوابة مصر الإسكندرية لجهة القاهرة. وترك العمّ محمد خلفه ولدَيه حسن وإبراهيم، أحدهما يتابع دراسته في جامعة القاهرة والثاني في مدرسة فنية. والجيران الذين يقولون إنّه يحرس المزرعة منذ 20 عاماً عندما استقرّ مع زوجته فيها، يلفتون إلى أنّ السيارة التي دهسته فرّت مسرعة ولم يتمّ التعرّف إلى صاحبها الذي دخل إلى أحد الطرقات الفرعية باتجاه مدينة الشيخ زايد.
تشهد المحافظات المصرية يومياً عشرات من حوادث السير التي تحصد آلاف الأرواح سنوياً، بينما تؤكّد تقارير دولية أنّ أكثر من 50 شخصاً يسقطون ضحايا لحوادث السير في خلال كلّ 100 كيلومتر تقطعها السيارات بمصر، أمّا السبب فهو المنحنيات الخطرة والمطبات العشوائية، وغياب الإنارة اللازمة واللوحات الإرشادية وتنفيذ قواعد المرور، بالإضافة إلى السرعة الجنونية لبعض السائقين، وزحمة السيارات، إلى جانب انتشار شاحنات النقل المزوّدة بمقطورات والتي تتسبّب في كوارث على الطرقات. يُذكر أنّ الحكومة المصرية عاجزة عن التوصّل إلى حلول جذرية لوقف نزيف دماء المصريين على الأسفلت.
وتوضح تقارير عدّة أنّ حوادث السير تهدّد السلامة العامة وأنّ عدد ضحاياها في خلال العام الأخير بمصر يراوح ما بين 25 و27 ألف قتيل وما بين 70 و80 ألف مصاب، أمّا الخسائر المادية فتراوح قيمتها ما بين 30 ملياراً و35 مليار جنيه (ما بين مليار و700 مليون وملياري دولار). وترى تلك التقارير أنّ حوادث السير في مصر أمر خطير، مطالبة الحكومة بالتدخّل لوقف نزيف الدم على الطرقات، ومؤكدة أنّ سوء حال الطرقات أدّى إلى مضاعفة نسبة تلك الحوادث، إلى جانب عدم التزام السائقين بقواعد المرور وضوابط الأمن والسلامة على الطرقات، بالإضافة إلى غياب رقابة الجهات المعنية بالمرور وسير المركبات.
تُعَدّ محافظة القاهرة الأولى من بين المحافظات المصرية لجهة حوادث السير الخطرة، ولعلّ أبرز طرقاتها التي تشهد مثل تلك الحوادث هو الطريق الدائري الذي يربط بين محافظات القاهرة الكبرى الثلاث وطوله 108 كيلومترات. ويعاني ذلك الطريق إهمالاً شديداً، إذ إنّه يخلو من أيّ نقاط للشرطة أو دوريات لها أو مراكز إسعاف. كذلك، يأتي محور 26 يوليو الذي يربط مدينة السادس من أكتوبر ومدينة الشيخ زايد بباقي أنحاء القاهرة الكبرى، بالإضافة إلى طريق الصعيد الصحراوي الذي يُطلق عليه "طريق الجيش" وطريق القاهرة الإسكندرية الزراعي الذي يفتقر إلى الإنارة.
موقع حادثة سير في القاهرة أشبه بموقع تفجير إرهابي (خالد دسوقي/ فرانس برس) |
وتكثر حوادث السير في مصر التي تؤدي إلى الوفاة مباشرة. أخيراً، على سبيل المثال، لقي شاب كان يستقلّ درّاجة نارية مصرعه، عندما صدمته شاحنة نقل في شارع كورنيش النيل بالقاهرة. وقد لفظ أنفاسه الأخيرة على الفور، إذ إنّ الإصابة طاولت رأسه. أمّا سائق شاحنة النقل فقد فرّ سريعاً من موقع الحادثة. كذلك شهد الطريق الصحراوي الشرقي في محافظة المنيا بصعيد مصر، حادثة أليمة راح ضحيتها 11 شخصاً، بينما أصيب 29 آخرون على أثر اصطدام أربع مركبات؛ إحداها ملاكي (خاصة) والأخرى شاحنة نقل، بالإضافة إلى مركبتَي ميكروباص. وقد نُقلت الجثث إلى المستشفى العام بينما نُقل المصابون إلى مستشفى التأمين الصحي في المنطقة. وعلى طريق صلاح سالم بمصر الجديدة، هزّ مصرع طالبتَين في جامعة عين شمس غضب الأهالي، على أثر سقوط سيارة ملاكي من أعلى جسر الفنجري الذي يتقاطع مع شارع صلاح سالم. يُذكر أنّ السيارة اخترقت سوراً حديدياً وتسببت في دهس الشابتَين وتسويتهما بالأسفلت في مشهد مرعب. وعلى الطريق الدائري، لقي عامل مصرعه فور تعرّضه لحادثة دهس في أثناء عبوره في الصباح الباكر، إذ لم يتنبّه لاقتراب شاحنة نقل منه.
تجدر الإشارة إلى أنّ سائقي السيارات المتورّطين في قضايا حوادث السير بمصر يُحالون إلى محكمة الجنح بعد اكتمال أدلة الثبوت، وذلك بعد توجيه تهمة القتل الخطأ إليهم. وهذا الاتهام التي حُدّدت عقوبته بنصوص المادتَين 238 و244 من قانون العقوبات اللتَين نصّتا على الحبس لمدّة لا تقلّ عن ستّة أشهر لمن تسبب في قتل شخص خطأ، وترتفع مدّة العقوبة لتراوح ما بين عام واحد وخمسة أعوام في حال كان المتهم تحت تأثير مواد مخدّرة في خلال الحادثة.
في السياق، يتحدّث أستاذ الطرق والنقل والمرور في كلية الهندسة التابعة لجامعة عين شمس، الدكتور حسن مهدي، عن الأسباب التي تؤدّي إلى تلك الحوادث، ويذكر "تناول بعض سائقي المركبات المواد المخدّرة، بالإضافة إلى عدم وجود لوحات إرشادية على الطرقات، وإنشاء مطبّات صناعية على الطرقات السريعة، وعدم الاهتمام بالفحص الفني للمركبات". ويوضح: "هذه من الأسباب الشائعة لحوادث السير في مصر، وهي التي تجعل مصر في الصدارة في السياق، إذ إنّها تحتلّ المركز الأول عالمياً في عدد الوفيات الناجمة عن حوادث سير". يضيف أنّ "ثمّة حلولاً ممكنة للتقليل من حوادث السير في مصر، ومنها تكثيف الحملات على الطرقات التي تهدف إلى إجراء اختبارات لسائق المركبة على الطريق للتأكد من مهارته في القيادة، وكذلك من عدم تناوله أيّ مواد مخدّرة في أثناء قيادته مركبته. لكنّ الحكومة لا تأخذ بذلك، خصوصاً في ما يتعلق بتحليل المواد المخدّرة".
ويطالب مهدي بـ"ضرورة الاهتمام بالفحص الفني للمركبات والعمل على إجراء صيانة دورية لها، إلى جانب الاهتمام بوضع إشارات ضوئية على الطرقات السريعة، كبديل عن المطبات الصناعية التي تُعَدّ كارثة على الجميع، لكي يتمكن السائق من تخفيض سرعته والحؤول دون وقوع حوادث". يتابع أنّه "لا بدّ من إنشاء هيئة مسؤولة عن منظومة المرور بالكامل، تعمل على تقويم سلوك وزارة الصحة والنقل والمرور، وتتبع بطريقة مباشرة رئيس الدولة أو رئيس مجلس الوزراء. كذلك، يتوجّب على المعنيين استحداث هيئة قضائية متخصصة في النظر في قضايا المرور وتحليل الحوادث ودراسة نسبة الخطأ ومعرفة العيوب التي تؤدّي إلى تلك الحوادث، بالإضافة إلى الاستعانة بالتقنية الحديثة". ويؤكد مهدي "أهمية توفّر دورات تدريبية للسائقين تسمح لهم بتجنّب الحوادث"، مع التشديد على "العقوبات الخاصة بالحوادث".