29 أكتوبر 2024
حل الدولتين في مقابر الأرقام
بداية، قد يكون من المفيد التعريف بالمصطلحين أعلاه؛ أولاً حل الدولتين، القائم على مبدأ التوصل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، تتضمن إقامة دولة ديموقراطية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967. والثاني مقابر الأرقام، وهو الاسم الرمزي لعدد من المدافن السرية، أغلبها في منطقة غور الأردن، أنشأتها إسرائيل من أجل مواراة جثامين مئات الشهداء من مقاتلين وأسرى، حيث لكل قبر رقم خاص به، وملف دال على هوية ضحية معينة.
مناسبة الحديث عن المصطلحين أملته النتائج المخيبة للآمال، الناجمة عن زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي، جاريد كوشنير، أخيراً بعض دول المنطقة، بما فيها إسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أصدرت القنصلية الأميركية العامة في القدس بياناً قصيراً من سطرين، لخصت فيه نتائج الاجتماع مع القيادة الفلسطينية، قائلة إنه كان اجتماعاً مثمراً ركز على كيفية بدء محادثات جوهرية للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، واتفق الجانبان على مواصلة المحادثات التي تديرها الولايات المتحدة، باعتبارها أفضل طريق للتوصل إلى اتفاق سلام.
وبحسب مصادر صحافية أميركية (واشنطن بوست)، فإن الولايات المتحدة تميل، في هذه المرحلة، إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قبل إطلاق المفاوضات بينهما. أي أن ما جرى، وما قد يجري من محادثات إضافية، لن يشمل البحث في مسألة حل الدولتين، هذا الحل الذي لم يعد في واقع الأمر سوى مادة أرشيفية، تضاف إلى كم هائل من المبادرات والاقتراحات ومشاريع الحلول، التي تم وأدها تباعاً على مدى العقود الزمنية المتعاقبة، من جانب قوة احتلال غاشمة، لم ترَ في السلام العادل خياراً لها، وهي التي تمتلك زمام المبادرة، ولا يعوزها مثل هذا السلام أصلاً.
ومع ذلك، ظل خيار حل الدولتين بمثابة البضاعة المعروضة وحدها في سوق الشرق الأوسط،
منذ إطلاق هذا الحل أوائل الألفية الثالثة في زمن الولاية الأولى من عهد الرئيس جورج بوش الابن، كما اكتسب هذا الخيار النظري دفعةً معنويةً جديدة طوال فترتي رئاسة باراك أوباما، الذي أوفد، في أول الأمر، مبعوثاً خاصاً هو جورج ميتشيل، ثم أرسل وزير خارجيته، جون كيري، عدة مرات، لزحزحة إسرائيل عن موقفها المتعنت، عبر مفاوضات مباشرة وأخرى تقريبية لوجهات النظر، من دون أن يتمكّن الوزير الأميركي الصبور من إحداث خرق في جدار القضية المستعصية.
في عهد الرئيس الأميركي الحالي، حدث تراجع في لهجة الخطاب وفي مضمونه، تجلى في تخلي دونالد ترامب عن السياسة التي درج عليها الرئيسان السابقان، لجهة التمسّك بحل الدولتين، الذي هو في الأساس مقترح أميركي خالص، تبنته اللجنة الرباعية الدولية في خطة خريطة الطريق، واعتمده مجلس الأمن الدولي، وصار محل إجماع لا سابق له، ومحل قبول عربي عريض عبرت عنه مبادرة السلام العربية، الأمر الذي يوضح مدى فداحة التراجع من جانب واشنطن عن هذا الحل الذي يكاد أن لا يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية المشروعة، وفي مقدمتها إقامة دولة مستقلة على حدود 4/6/1967.
وعلى الرغم من أن بنيامين نتنياهو أعلن، مكرهاً، في بداية ولاية باراك أوباما الأولى، قبوله المشروط بحل الدولتين، إلا أن حكومته اليمينية المتطرّفة بذلت كل ما في وسعها لتقويض أسس هذا الحل، من خلال اتباعها سياسة استيطانية متوحشة، راحت تسابق نفسها بنفسها، طوال السنوات الطويلة الماضية، لفرض مزيد من الحقائق على الأرض، وهي موضع الصراع أصلاً، وذلك في مشهد بدت فيه الرئاسة الأميركية أقرب ما تكون إلى التسليم بعدم قدرتها على وقف الزحف الاستيطاني المنهجي، أو حتى إلزام دولة الاحتلال بتنفيذ ما وقعت عليه في إطار النبضة الرابعة من اتفاق إطلاق سراح الأسرى المعتقلين قبل اتفاق أوسلو.
وبالفعل، بدا مبعوث الرئيس ترامب في محادثاته في رام الله، أخيراً، شديد الالتزام بنهج سيده المتراجع عن خيار حل الدولتين، حين أعرب للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عن استحالة وقف الاستيطان في الوقت الراهن، بحجة أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انهيار حكومة نتنياهو، وأنه لا يملك جواباً على الأسئلة التي كانت قد طرحتها القيادة الفلسطينية على واشنطن، بما في ذلك السؤال عن ماهية الموقف الأميركي من حل الدولتين، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن إدارة ترامب قد كتبت، في واقع الحال، ورقة نعي لهذا الحل الذي تحول جثة، لا مكان له سوى في إحدى مقابر الأرقام المنتشرة في الأغوار الشمالية.
ولعل السؤال الذي لا مفر من طرحه، والحالة هذه؛ ماذا تبقى لدى الفلسطينيين من خيارات
بديلة، إذا كان خيار حل الدولتين قد أصبح من الماضي وباتت القوة العظمى الوحيدة في حل من سياستها غير المأسوف عليها؟ وهل هناك من يعتقد أن هذه الإدارة المنهمكة في عملية دفاع مريرة عن نفسها، في مواجهة سلسلة من الاتهامات المعيبة، قد تودي بها، عما قريب، قادرة بعد على تحقيق ما عجزت عن تحقيقه إدارات سابقة، حتى وإن صدقت النية، ورغبت في وضع نفسها على محك الاختبار الإسرائيلي الخشن، علماً أنها غير مؤهلة أساساً، وليست في وارد القيام بما من شأنه أن يزيد من متاعبها، ويفاقم من تخبطاتها الشديدة؟.
لقد انقضى وقت التعلل بالأماني، وانتهى زمن المراوحة، بعد أن انسدت الدروب وتضاءلت الخيارات، واختلت الموازين وضعف اليقين، ولم يعد بُدٌّ من التعامل مع الوضع بذهنيةٍ جديدة من خارج الصندوق، بروح المبادرة، ونعني بذلك إنهاء الانقسام ورص الصفوف، ومن ثمة إعادة التموضع في سياق أوسع من لعبة المفاوضات التي لو تؤد إلا إلى زيادة الاستيطان، مع الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، والتعويل أكثر على المقومات الشعبية، والدبلوماسية والإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، والقضاء الدولي وشبكات المتضامنين الدوليين، وغير ذلك من أسلحة القوة الناعمة.
إزاء ذلك كله، من الواقعي أن تعيد القيادة الفلسطينية مقاربتها حل الدولتين بصورة جذرية، بعد أن شبع هذا الخيار موتاً، وأن تجري مراجعة شاملة لما تبقى لديها من خياراتٍ قليلة، وأن تعمل كل ما في وسعها لتدويل القضية الفلسطينية، وانتزاعها من براثن المفاوضات الثنائية وأيدي الرباعية الدولية، خصوصاً من بين أنياب الولايات المتحدة، وذلك كله على طريق تأزيم إسرائيل داخلياً وخارجياً، وتعقيد علاقاتها مع الغرب، وتقويض صورتها الزائفة دولة ديموقراطية وحيدة في الشرق الأوسط.
مناسبة الحديث عن المصطلحين أملته النتائج المخيبة للآمال، الناجمة عن زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي، جاريد كوشنير، أخيراً بعض دول المنطقة، بما فيها إسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أصدرت القنصلية الأميركية العامة في القدس بياناً قصيراً من سطرين، لخصت فيه نتائج الاجتماع مع القيادة الفلسطينية، قائلة إنه كان اجتماعاً مثمراً ركز على كيفية بدء محادثات جوهرية للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، واتفق الجانبان على مواصلة المحادثات التي تديرها الولايات المتحدة، باعتبارها أفضل طريق للتوصل إلى اتفاق سلام.
وبحسب مصادر صحافية أميركية (واشنطن بوست)، فإن الولايات المتحدة تميل، في هذه المرحلة، إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قبل إطلاق المفاوضات بينهما. أي أن ما جرى، وما قد يجري من محادثات إضافية، لن يشمل البحث في مسألة حل الدولتين، هذا الحل الذي لم يعد في واقع الأمر سوى مادة أرشيفية، تضاف إلى كم هائل من المبادرات والاقتراحات ومشاريع الحلول، التي تم وأدها تباعاً على مدى العقود الزمنية المتعاقبة، من جانب قوة احتلال غاشمة، لم ترَ في السلام العادل خياراً لها، وهي التي تمتلك زمام المبادرة، ولا يعوزها مثل هذا السلام أصلاً.
ومع ذلك، ظل خيار حل الدولتين بمثابة البضاعة المعروضة وحدها في سوق الشرق الأوسط،
في عهد الرئيس الأميركي الحالي، حدث تراجع في لهجة الخطاب وفي مضمونه، تجلى في تخلي دونالد ترامب عن السياسة التي درج عليها الرئيسان السابقان، لجهة التمسّك بحل الدولتين، الذي هو في الأساس مقترح أميركي خالص، تبنته اللجنة الرباعية الدولية في خطة خريطة الطريق، واعتمده مجلس الأمن الدولي، وصار محل إجماع لا سابق له، ومحل قبول عربي عريض عبرت عنه مبادرة السلام العربية، الأمر الذي يوضح مدى فداحة التراجع من جانب واشنطن عن هذا الحل الذي يكاد أن لا يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية المشروعة، وفي مقدمتها إقامة دولة مستقلة على حدود 4/6/1967.
وعلى الرغم من أن بنيامين نتنياهو أعلن، مكرهاً، في بداية ولاية باراك أوباما الأولى، قبوله المشروط بحل الدولتين، إلا أن حكومته اليمينية المتطرّفة بذلت كل ما في وسعها لتقويض أسس هذا الحل، من خلال اتباعها سياسة استيطانية متوحشة، راحت تسابق نفسها بنفسها، طوال السنوات الطويلة الماضية، لفرض مزيد من الحقائق على الأرض، وهي موضع الصراع أصلاً، وذلك في مشهد بدت فيه الرئاسة الأميركية أقرب ما تكون إلى التسليم بعدم قدرتها على وقف الزحف الاستيطاني المنهجي، أو حتى إلزام دولة الاحتلال بتنفيذ ما وقعت عليه في إطار النبضة الرابعة من اتفاق إطلاق سراح الأسرى المعتقلين قبل اتفاق أوسلو.
وبالفعل، بدا مبعوث الرئيس ترامب في محادثاته في رام الله، أخيراً، شديد الالتزام بنهج سيده المتراجع عن خيار حل الدولتين، حين أعرب للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عن استحالة وقف الاستيطان في الوقت الراهن، بحجة أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انهيار حكومة نتنياهو، وأنه لا يملك جواباً على الأسئلة التي كانت قد طرحتها القيادة الفلسطينية على واشنطن، بما في ذلك السؤال عن ماهية الموقف الأميركي من حل الدولتين، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن إدارة ترامب قد كتبت، في واقع الحال، ورقة نعي لهذا الحل الذي تحول جثة، لا مكان له سوى في إحدى مقابر الأرقام المنتشرة في الأغوار الشمالية.
ولعل السؤال الذي لا مفر من طرحه، والحالة هذه؛ ماذا تبقى لدى الفلسطينيين من خيارات
لقد انقضى وقت التعلل بالأماني، وانتهى زمن المراوحة، بعد أن انسدت الدروب وتضاءلت الخيارات، واختلت الموازين وضعف اليقين، ولم يعد بُدٌّ من التعامل مع الوضع بذهنيةٍ جديدة من خارج الصندوق، بروح المبادرة، ونعني بذلك إنهاء الانقسام ورص الصفوف، ومن ثمة إعادة التموضع في سياق أوسع من لعبة المفاوضات التي لو تؤد إلا إلى زيادة الاستيطان، مع الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، والتعويل أكثر على المقومات الشعبية، والدبلوماسية والإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، والقضاء الدولي وشبكات المتضامنين الدوليين، وغير ذلك من أسلحة القوة الناعمة.
إزاء ذلك كله، من الواقعي أن تعيد القيادة الفلسطينية مقاربتها حل الدولتين بصورة جذرية، بعد أن شبع هذا الخيار موتاً، وأن تجري مراجعة شاملة لما تبقى لديها من خياراتٍ قليلة، وأن تعمل كل ما في وسعها لتدويل القضية الفلسطينية، وانتزاعها من براثن المفاوضات الثنائية وأيدي الرباعية الدولية، خصوصاً من بين أنياب الولايات المتحدة، وذلك كله على طريق تأزيم إسرائيل داخلياً وخارجياً، وتعقيد علاقاتها مع الغرب، وتقويض صورتها الزائفة دولة ديموقراطية وحيدة في الشرق الأوسط.
مقالات أخرى
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024