حلو ومالح

11 ابريل 2017
البحر نفسه لا أحلى من طعمه (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

النظر في الماضي أو حتى الغرق فيه بالكامل ليس انسلاخاً فعلياً عن الحاضر. الماضي يعيش بيننا في كلّ لحظة، ونستهلكه يومياً بطرق شتى، سواء في الذاكرة الذهنية والجسدية والاجتماعية أو في تكويننا العاطفي. كذلك، هو يمثُل مادياً أمامنا ونشاهده من دون أن نغمض جفناً حتى ومن دون أحلام يقظة. هو في أدواتنا وعاداتنا وفي قوانيننا وعقائدنا... بل هو في مشهد سمائنا وفي كيفية رؤيتنا الأشياء في ذلك الفضاء الرحب من نجوم ومجرات اتفق على أنّ صورها تنتمي إلى ماض بعيد جداً، لكنّها تتعلق بحاضرنا نحن بالذات، فما همّنا إن كانت قد اندثرت اليوم في مكانها الأصلي.

بين الذكريات يملك الفكر مهارة التصنيف الآلي ما بين المتناقضات، ما بين ذكريات سعيدة وغيرها، ما بين جميل وغيره، ما بين حلو ومالح. ومهما كان الوضع تجهد نفسك في تحديد بعض تلك اللحظات وتصنيفها، فتعيد النظر فيها جيداً وتنحاز إليها بقلبك فتشعر بها حلوة، وبعقلك فتقرّر أنّها مالحة. تحار بها وقد تعيد النظر فتلتمس لها انتماء، وقد تستأنس بحكم من خارج ذاتك. ليست المسألة في استفتاء حولها يمنح أصواتاً لحلوها تفوق أصوات ملوحتها أو العكس، بل فيها هي نفسها، في طبيعتها الفريدة وحدها التي لا تغفل لحظة واحدة عن صانعها وعن ظروف صنعها.

الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، التي تمر ذكراها الثانية والأربعين بعد غد الخميس، مثال جيد، إذ تحمل الكثير من تلك اللحظات الجميلة النابضة بالحب وربما الأمل، تلك التي تضرب كلّ شرورها. ومع دأبنا على البحث عن ذلك الحلو الضارب في نبضنا وتظهيره أكبر من كلّ ما حوله، ندرك أنّ البحر نفسه بكامل ملوحته قد يكون حلواً بين يدي بعضنا، وقد يكون ذلك الملح حلواً.

صباح السبت الماضي رحل والدي عن هذه الدنيا. الحلواني الذي أمضى نصف عمره بحرياً، كان ذا قدرة مذهلة على التقاط تلك اللحظات الحلوة من أعمق الأزمات، وعلى صنع لحظات حلوة باقية. لحظات ينتقيها ويشكلها في قصص جميلة. فحتى لو كانت قصة عودة من أوديسا السوفييتية إلى ميناء اللاذقية ومنها إلى الحدود اللبنانية مع الجمهورية العربية المتحدة، اعتدى بعدها الأمن اللبناني - في نظام تابع لحلف بغداد في مواجهة المدّ الشيوعي - عليه وعلى جميع رفاقه في نادي التضامن صور، تتحول القصة نفسها إلى أقاصيص عن ثورة عام 1958 وقصص الحصار والصمود الحلوة بالرغم من صعوبتها.

أقاصيص كثيرة حدّثنا بها، بعضها يستلّ ذلك الطعم الحلو من قلب الحرب والموت والفقر والتهجير. ومهما كان وقتاً طويلاً بعده لكلّ من عرفوه، لعلّهم سيذكرون من خلاله أنّ البحر نفسه لا أحلى من طعمه.


المساهمون