حلم في الوطن العربي.. عندما قرّرت أن لا أستيقظ

31 ديسمبر 2016
(متحف بوشكين/ موسكو، عمل لـ يوجين كاريير)
+ الخط -
استيقظت من النّوم كعادتي على الساعة التاسعة صباحًا، لكن على غير عادتي نهضت خفيف الظّل، غير متثاقل، ولا صداع يهشّم رأسي. فعند كل صباح كنت أستفيق وأنا أشعر أن جسمي كله يؤلمني، وكأنه خضع لجلسة من التعذيب، أما رأسي فكنت أحسه سندانا تنزل عليه آلاف المطارق. لكن هذا الصباح لا شيء من هذا حصل..

ذهبت إلى الحمام غسلت وجهي، ثم أعددت فطوري وجلست أتناوله أمام التّلفاز كما درجت على فعل ذلك كل يوم. بحثت بواسطة آلة التحكم عن بعد عن قناة إخبارية، لكن الشاشة ظلّت سوداء، بحثت عن أخرى لكن دون جدوى.

قلت في نفسي لعلّ هناك عطبًا أصاب جهاز الاستقبال، فقمت بمحاولة أخيرة لكن هذه المرّة على قناة متخصّصة في الأشرطة الوثائقية، فظهرت، كانت تبث شريطًا وثائقيًا يتطرّق لحياة الأديب الأميركي وليام فولكنر، فجلست أتمتع بمشاهدته، لمّا انتهى الشريط كنت قد أتيت على فطوري كله، فانتابني مرّة أخرى إحساس بالغرابة، فلقد كان من عادتي، بل ومن طقوسي التي لا يمكن التخلّي عنها حتى لو وضعوا القمر عن يميني والشمس عن شمالي، شرب القهوة مع أختها في الرضاعة السيجارة، لكن اليوم لم أجد أدنى رغبة في ذلك.

كان اليوم يوم عطلة، ومن عادتي في هذا اليوم أن أذهب إلى المقهى المتواجد في مركز المدينة، ارتديت ملابسي، وأخذت محفظتي بعدما وضعت في أحشائها رواية "اسم الوردة" لأمبيرتو إيكو، وخرجت.

أوّل ما أثارني وأنا في الشارع، هو أن المارة كانوا يبتسمون ووجوههم مشرقة ونضرة، وكانوا على غير العادة عوض أن ترى بعضهم يتصفّح هاتفه النقّال كانوا يتصفّحون كتبًا.

 أشرت إلى تاكسي كان يمرّ بمحاذاتي فتوقف على الفور، عندما ركبت كانت هناك رائحة زكية تغمر المكان، أما سائقه فقد كان أنيقًا ووسيمًا. طلب مني بكل وداعة وأدب وجهتي، لم يمتعض عندما علم أن المسافة لم تكن بعيدة، ضغط على زر العداد وانطلق، رغم علمه بأن العداد عند الوصول سوف لن يتجاوز السعر المعتمد في هذه المدينة.

أثناء الطريق لم يفرض علي حديثًا كما لم يفرض علي إذاعة أو موسيقى، بل خيّرني إن كنت أرغب في سماع السيمفونية الرابعة لبيتهوفن، فرحّبت بالأمر. عندما وصلنا إلى المكان المقرّر سلفًا، كان العدّاد بالفعل أقل من المعتاد، نفحته ثمنها وشكرني دون أن يفقد ابتسامته.

توجّهت رأسًا إلى مقهاي المعتاد، وجدت كل مرتاديه يحمل بين يديه كتابًا يتصفّحه، وهذا أمرٌ مثير للعجب، فالعادة أنهم لا يقرؤون، وإن فعلوا فهم لا يتصفّحون إلا الجرائد وعلى صفحة الرياضة أو الحوادث، أخذت مكانًا بينهم، ودفعني الفضول لمعرفة ما يقرأ اللذان على جنبي، فتبيّنت أن الذي على يميني كان يطالع كتاب "تاريخ الجنون" لميشيل فوكو، بينما الذي على يساري كان يقرأ رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي.

 جاء النادل، كان مثل سائق التاكسي أنيقًا في هندامه ووسيمًا، وسحنته مرسوم عليها ابتسامة تكاد تكون أزلية. طلب مني حاجتي، فاخترت على غير عادتي كوبًا من عصير البرتقال، ألقيت نظرة على المارّة فلم أتبيّن بينهم معتوهًا أو متسولًا، كان الجميع يبتسم، وهم منغمسون في كتبهم. بعد برهة جاء النادل وهو يحمل طلبي، وضعه أمامي، وأعطيته ثمن المشروب مع البقشيش، فأعاد إليّ البقشيش، وقال لي بأنه لا يأخذ إلا ثمن المشروب، كان قول النادل هذا هو ما دفعني إلى أن أتيقّن من أنني ما زلت في بيتي وعلى سريري نائمًا، وأن كل هذا ليس إلا حلمًا رائعًا.. فقرّرت عندها أن لا أستيقظ أبدًا.

المساهمون