في نهاية اليوم الأول من جريمة تهجير سكان شرقي حلب، خرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليقول، إن الولايات المتحدة حاولت إنقاذ حلب من خلال مفاوضات قادتها مع روسيا، ولكن الطرف الروسي تمسك برأيه، وأصر على إخراج الأمر بهذه الصورة. والطريف أن كيري لم يأخذ في عين الاعتبار أن نظيره الروسي سيرغي لافروف، كان قد أعلن صباحاً أن محادثات موسكو، بشأن سورية، مع واشنطن توقفت نهائياً، وهذا يعني أن روسيا لم تعد بحاجة للولايات المتحدة في هذا الملف، الذي بات من اختصاص موسكو وطهران وأنقرة.
كان موقف كيري سيكون مفهوماً أكثر، لو أنه دفن الرأس في الرمال، وتصرف على طريقة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومندوبه إلى سورية ستيفان دي ميستورا، فهذان المسؤولان الأمميان الرفيعان اختفيا عن الأنظار، واكتفيا بإرسال موظف أقل رتبة (يان إيغلاند) ليقدم عروضاً عن استعداد الأمم المتحدة لمساعدة أهالي حلب المطرودين من ديارهم، في الوقت الذي بات العالم كله يعرف أن الصليب الأحمر الدولي رفض الإشراف على عملية تهجير أهل حلب قسريا، وهذا يطرح سؤالاً كبيراً. هل رفض تغطية جريمة ضد الإنسانية؟
لم يكن أحد يصدق أن قضية إخلاء حلب سوف تتعدى مسألة إجلاء بضعة آلاف من المقاتلين إلى التهجير الإجباري بقوة القتل لقرابة 300 ألف من سكان المدينة كما هو حاصل اليوم، وكانت كافة الشروط التي طرحها الروس تركز على إجلاء مقاتلي جبهة النصرة الذين حددهم دي ميستورا في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بـ 900 مقاتل، وأبدى استعداده في حينها لمرافقة هؤلاء إلى خارج حلب، ومن ثم تطورت الشروط إلى خروج كافة المقاتلين الذين لا يتجاوز عددهم 10 آلاف.
ما بدأ صباح أمس هو عملية تهجير لسكان شرقي حلب في عملية بث مباشر تقوم بها القناة الفضائية السورية الرسمية، تحت عنوان "حلب تنتصر"، ونقلت هذه القناة مشاهد تظهر بعض مناطق الدمار في حلب، وهي الصور التي يراها العالم للمرة الأولى.
إن البث المباشر للصور يحمل عدة رسائل، أولها، أن ما تعرضت له منطقة شرقي حلب لا تكفي الصور وحدها للتعبير عنه، لأنه يتجاوز ذلك إلى مستويات من الجريمة، يتعذر حتى نقل آثارها المباشرة. والرسالة الثانية هي أنه يستحيل إجراء ترميم لأي حي في المنطقة، وبالتالي سيكون الحل تدميرها كليا، الأمر الذي يصب في صالح اقتصاد الخراب والجريمة، الذي بشر به بشار الأسد، في أحاديثه الأخيرة التي روّج فيها لشركات إعادة الإعمار.
أما الرسالة الثالثة، وهي الأخطر، فتتمثل في أن من يرحل عن شرقي حلب، لن يجد فرصة للعودة إلى هذا المكان، ومن كان يملك بيتا هنا لن يقبض حتى على كمشة من التراب.
الرسالة الأخيرة لا تحتاج إلى براهين كثيرة، طالما أن المجرم أفلت من العقاب بحماية روسيا وإيران وصمت وتواطؤ القوة الكونية الأولى، الولايات المتحدة الأميركية، وعجز الأمم المتحدة حتى عن لعب دور صليب أحمر يتكفل بإخراج المرضى والجرحى.
حاولت بعض وسائل الإعلام العربية أمس تبرير العجز العربي عن نجدة حلب من خلال رمي اللوم على تركيا، ومحاولة تحميلها مسؤولية مأساة حلب وعملية التهجير. وفي الوقت الذي كانت الأجهزة التركية الإغاثية والاستخبارية والسياسية مستنفرة لتأمين خروج المدنيين من حلب، لم تصل الحدود السورية التركية حتى منظمة إغاثة عربية واحدة. قد تكون تركيا لم تتمكن من إنقاذ حلب، وهذا بات فوق طاقتها بسبب التواطؤ الأميركي الأطلسي، ولكنها على الأقل تكفلت بالجانب الإنساني وحدها، أمام عالم عربي لا يزال يكتفي بالفرجة والعنتريات.
ما يحصل في حلب منذ صباح أمس هو جريمة ضد الإنسانية، تشمل التهجير القسري لسكان شرقي حلب من قبل روسيا وإيران ونظام دمشق، وبتواطؤ أميركي وعجز أممي وعربي وإسلامي.
جريمة يقوم المجرم بتصويرها وبثها مباشرة على الهواء.