ما إن تشاهد الأفلام أو الأغاني الموجودة في أي مكان، إلا وتجد قدرة على الإحاطة بالحالة الاجتماعية والذوقية لهذا البلد والمجتمع؛ ذلك أن ما تمثله الثقافة "الفنية" تعكس قدرا كبيرا من الذوق الذي يميل إليه المجتمع، مما يشجع على استمرار ذلك اللون والفن، قطعا لا ينفي ذلك ما يحدثه الفن من توجيه للمجتمعات، إلا أن ما يعنينا بالمقام الأول استجابة المجتمع التي سمحت ببقاء هذا النوع من الفن الذي يصنع عملية التوجيه فيما بعد.
مررنا قبل أيام بالذكرى الأربعين لوفاة أم كلثوم، التي كانت أكبر رمز لما يسمى بـ "زمن الفن الجميل"، ذلك الزمن الذي لا تزال الحالة الفنية تتنفس على بقاياه، ربما يكون السبب الرئيسي في تميزهم التقاطهم لما كان يجسده الفن كرسالة تعكس صورة المجتمع وبيئته، وكذلك انعكاس تأثرهم بتلك البيئة المراد تجسيدها، فمثلا عندما تنظر لوجه زكي رستم وهو يجسد شخصية سارق أو تاجر مخدرات ترى السوء ينساب من قسمات وجهه دون عناء كأنها حياته، وعندما تراه يجسد شخصية أرستقراطية "باشا" تراه يتصرف ويتكلم دون عناء أو تكلف وكأنه تربى هكذا، وذلك نابع من مدى فهمهم لما يقدمونه، وكذا الصدق الذي عاشه جيلهم مع أنفسهم.
الاستماع للقاءات المسجلة مع فناني الزمن الجميل، يكسبك متعة من ناحية، وتصورا لطبيعة فهمهم وسلوكهم من ناحية أخرى، المتعة في رقي اللغة وبساطتها وأيضا بساطة المتحدِّث نفسه وما يحمله من قيم. فريد الأطرش، مثلا، كان يتحدث عن طفولته، وأنه اضطر للعمل وهو صبي في السابعة من عمره كساعٍ في أحد المحلات الشهيرة في العشرينيات، ويقبض 4 جنيهات شهريا، وعلاوة نص ريال، ثم بعد ذلك عمل عند بديعة مصابني بـ 8 جنيهات شهريا، وكان يذهب في الصباح إلى مدرسة الفرير، وبعد الظهر لمعهد فؤاد الأول، الذي أصبح معهد الموسيقى العربية، وفي الليل عند بديعة كومبارس، كان يتحدث دون أي حرج مما كان يمثله ماضيه، ودون إشعار بأنه ابن باشاوات، وهو يعلم مقداره بعد كل تلك السنوات الشاقة.
عبد الوارث عسر إذا سمعته وجدته يتحدث أفضل كثيرا من مشايخ زماننا، وكذلك إسماعيل يس الذي يُقدّر أنه كوميديان يُضحك الناس، فعندما يخرج للقاء إذاعي يمازح جمهوره ويداعبهم، وإذا ما أشاروا لفمه الكبير، يضحك لهم ضحكته المشهورة حتى يبهجهم، بخلاف الكوميديان الأبرز الآن والذي عاصر جيلهم، إذا منّ على الجمهور بلقاء تلفزيوني تحدث وكأنه "زعيم" دولة، لا أحد الكوميديانات، وغيرهم الكثير ممن تواضعوا لجمهورهم فأحبهم.
حالة الصدق التي عاشوها مع أنفسهم تجسدت في الفن الغنائي كذلك، كانت أم كلثوم تشدو، فتشعر وكأنك تشاهد الأحداث، أو أنها لمست لديك أوتارا من تلك المواقف فتجسدت أمامك ذكرياتك أو وقائعك الحالية بلسان عذب وألحان أعذب، ربما وجدت حلاوة لمجمل أغانيها، إلا أن الطرب تجسد في السنباطي والقصبجي وزكريا، لكن تجسيد الكلمات اختص به الموسيقار الكبير عبد الوهاب وكذلك بليغ، حتى أصبحت الآهات ترج دار الأوبرا كأنك أمام جمهور انتزعت لعبة حلوة منه الآهة.
بإمكانك أن تستمع لحليم وهو يغني "فاتت جنبنا" فترى في كل مقطع نفسك، وكأنه يحكي حكايتك، وترى الموسيقى تضطرب مع اضطرابه وتفرح مع فرحه وتصرخ مع صرخاته، بإمكانك أن تشاهد أم كلثوم وهي تغني "فكروني" فتراها بآخر مقطع تقول "فكروني إزاي هو أنا نسيتك؟" ولا تقدر أن تستمع لها إلا وأنت موقن بأنك أمام شخص كان يتحدث طويلا ثم انتبه، وذلك إبداع ما بعده إبداع، فلا تملك إلا القفز من مكانك على التعايش الذي حدث لهم وأحدثوه لمن حولهم، لكن التفوق الكاسح يأتيك من موسيقى عبد الوهاب نفسها التي كانت وكأنها مسترسلة ثم انتبهت هي أيضا.
لا يمكن التوقف عن الاسترسال في الحديث عن كل أغنية وكل مقطع وكل جملة موسيقية في ذلك الزمن، وقد تركتنا كوكبة من أربعين عاما للمتردية والنطيحة، وإذا ما أردت أن تعقد مقارنة بسيطة مع ما كان يُقدم بزمانهم ومدى فهمهم للكلمات ووظيفتها، وما يتم تقديمه الآن فيكفيك أن تعلم أن أحدهم عندما أراد أن يعبر عن صفاء النفس بقوله "عشق الجسد فاني والباقي حلاوة روح" فإنهم أتوا بأشهر فنانات الإغراء لا حتى لتوضح المعنى بل لترقص عليها.
(مصر)