هناك أغنية لوديع الصافي كانت تزعجني كلماتها عندما كنت صغيرة، يقول مطلعها: "لوين يا مروان ع مهلك ع مين تارك أهلك".. ويكرّر فيها مناداة ابنه ويزوّده بالنصائح ألا يترك "الضيعة".. ولم تكن المشكلة في مروان بل في أهله ووالده الذي يناديه، أي الأستاذ وديع، والذي يقارن في مقطع آخر بين ليلى بنت الضيعة والأخرى بنت المدينة: "ليلى يا ابني إن جارت الأيام بتعيش ع الزيتون والجبنة... وبنت المدينة بدها خدام وغير على ريش نعام ما بتنام".
لأني بنت مدينة، كنتُ أشعر ببعض الغيرة وبعض الإهانة، أوّلاً لأنّي ما نمت في حياتي "ع ريش نعام"، ولم يكن عندي ولا عند أهلي خدّام. والأدهى من هذا أننا كنا محرومين من الزيتون والجبنة، لأنّ أراضي أجدادي لأمي وأبي تمّت مصادرتها عام 1948، وكنا نضطر لشراء القليل من زيت الزيتون بسبب سعره المرتفع، وكانت أمّي تخلطه مع زيت الصويا الرخيص ليكفينا لكلّ السنة. أما في خصوص الجبنة، فهي كانت وما زالت غالية الثمن في المدينة، حيث يصل ثمن الكيلو لحوالي 11 دولاراً أميركياً، وهذا لا يضمن أبداً أن تكون هذه الجبنة التي نأكلها في المدينة من نوعية جيّدة، أو من حليب النعاج، فقد تكون من حليب "البودرة المستورد"، بعكس أهل القرى الذين يصنعون الجبنة بأنفسهم وهم متأكدون من أنها جبنة حقيقية. أما الغيرة فلأنني كنت أجد رومانسية رائعة في الأغاني عن أهل القرى والريف ومواسم الحصاد...
أنا بنت مدينة. ولدت في المدينة وترعرعت في المدينة، وأمضيت شبابي ثم كهولتي في المدينة، وعلى الأغلب أن أمضي باقي أيامي في المدينة، فأصل أهلي صيادو سمك، وليسوا فلاحين كباقي أهالي بلادنا (فلسطين) لذلك ما كانت مواسم الزيتون أو الحصاد تعني لي أي شيء خاص، ولكن كلما زاد تعلّقي بالوطن، صار لمواسم قطف الزيتون في "تشارين"، أي أكتوبر ونوفمبر، والحصاد في مايو/أيار مكانة في قلبي لما قرأته من أقوال رومانسية عن هذه المواسم، خاصة لما كان عندي صفحة خاصة على الفيسبوك، الذي كان يمتلئ بأقوال وصور عن جماليات موسم قطف الزيتون والحصاد، وعن "أيّام زمان"، فما كان منّي إلا أن طلبت من أحد الأصدقاء من أصول فلاحية، أن يدعوني ليوم قطف الزيتون في قريته، لأضمن "شوية زيت وكم مرطبان زيتون"، والأهمّ لأعيش التجربة.
في اليوم الموعود، تزوّدت بملابس ملائمة وحذاء رياضة وطاقات إيجابية.
في البداية، كان الأمر عبارة عن مغامرة بنت المدينة في كرم الزيتون، ولكنّ تجميع حبات الزيتون المتساقطة أو المنهمرة، ووضعها في الشوالات البلاستيكية أوجع لي عضلات ظهري، التي بدأت تطلق صرخات الاستغاثة بعد ساعة من بداية العمل.
خجلت أن أطلب استراحة وأنا أرى الجميع يعمل، لاسيما المسنيّن والمسنّات، وما صدّقت أن يحين موعد الإفطار الجماعي لأريح ظهري من عناء العمل، ولكن بعد الاستراحة والأكل "ما عاد فيّ حيل"، ما عاد عندي قوّة لأي عمل، لكني خفت من معايرتي بكوني "بنت مدينة"، فقمت مع الجميع وطلبت أن أشارك في قطف حبات الزيتون مباشرة من أغصان الشجر القريبة للأرض (كوني لا أمتاز بطول يمكّنني من الوصول للأغصان الأبعد) ولكن بعد ساعة، شعرت بوجع لا يحتمل في عضلات ذراعي، وما صدّقت متى يأتي "وقت الغدا" لأرتاح، ولكن هيهات!!
كان علي، بصفتي امرأة، أن أساعد في تحضير وتقديم الأكل للرجال، الذين يقومون بالأعمال الأصعب، من تسلّق السلم أو الشجر العالي، وهزّ أغصان الشجر ونقل الشوالات المليانة للسيارات..
باختصار، وبلا طولة سيرة، حين حلّ المساء رأيتني أردّد بيني وبين حالي: قديش أنا محظوظة لأني بنت مدينة، وأني أعيش رومانسية موسم قطف الزيتون من بعيد لبعيد، وأستمتع بما يجود عليّ به الأصدقاء وما أشتريه من زيت وزيتون.
واليوم، مع بداية الصيف عادت لي بعض الرومانسية، وفكرت أن أطلب من صديقة، لأهلها أرض في مرج البطوف شمال فلسطين، يشوون القمح ليصنعوا الفريكة، لكني تذكرت موسم الزيتون وما حصل لي فيه، وتراجعت سريعاً عن أفكاري، وقرّرت أن أذهب مع صديقتي لنشتري "كم كيلو فريكة وبرغل" من فلاحي سهل البطوف، ومن أهلها تحديداً.
إقرأ أيضاً: حكواتي: حكايتي مع القدس
لأني بنت مدينة، كنتُ أشعر ببعض الغيرة وبعض الإهانة، أوّلاً لأنّي ما نمت في حياتي "ع ريش نعام"، ولم يكن عندي ولا عند أهلي خدّام. والأدهى من هذا أننا كنا محرومين من الزيتون والجبنة، لأنّ أراضي أجدادي لأمي وأبي تمّت مصادرتها عام 1948، وكنا نضطر لشراء القليل من زيت الزيتون بسبب سعره المرتفع، وكانت أمّي تخلطه مع زيت الصويا الرخيص ليكفينا لكلّ السنة. أما في خصوص الجبنة، فهي كانت وما زالت غالية الثمن في المدينة، حيث يصل ثمن الكيلو لحوالي 11 دولاراً أميركياً، وهذا لا يضمن أبداً أن تكون هذه الجبنة التي نأكلها في المدينة من نوعية جيّدة، أو من حليب النعاج، فقد تكون من حليب "البودرة المستورد"، بعكس أهل القرى الذين يصنعون الجبنة بأنفسهم وهم متأكدون من أنها جبنة حقيقية. أما الغيرة فلأنني كنت أجد رومانسية رائعة في الأغاني عن أهل القرى والريف ومواسم الحصاد...
أنا بنت مدينة. ولدت في المدينة وترعرعت في المدينة، وأمضيت شبابي ثم كهولتي في المدينة، وعلى الأغلب أن أمضي باقي أيامي في المدينة، فأصل أهلي صيادو سمك، وليسوا فلاحين كباقي أهالي بلادنا (فلسطين) لذلك ما كانت مواسم الزيتون أو الحصاد تعني لي أي شيء خاص، ولكن كلما زاد تعلّقي بالوطن، صار لمواسم قطف الزيتون في "تشارين"، أي أكتوبر ونوفمبر، والحصاد في مايو/أيار مكانة في قلبي لما قرأته من أقوال رومانسية عن هذه المواسم، خاصة لما كان عندي صفحة خاصة على الفيسبوك، الذي كان يمتلئ بأقوال وصور عن جماليات موسم قطف الزيتون والحصاد، وعن "أيّام زمان"، فما كان منّي إلا أن طلبت من أحد الأصدقاء من أصول فلاحية، أن يدعوني ليوم قطف الزيتون في قريته، لأضمن "شوية زيت وكم مرطبان زيتون"، والأهمّ لأعيش التجربة.
في اليوم الموعود، تزوّدت بملابس ملائمة وحذاء رياضة وطاقات إيجابية.
في البداية، كان الأمر عبارة عن مغامرة بنت المدينة في كرم الزيتون، ولكنّ تجميع حبات الزيتون المتساقطة أو المنهمرة، ووضعها في الشوالات البلاستيكية أوجع لي عضلات ظهري، التي بدأت تطلق صرخات الاستغاثة بعد ساعة من بداية العمل.
خجلت أن أطلب استراحة وأنا أرى الجميع يعمل، لاسيما المسنيّن والمسنّات، وما صدّقت أن يحين موعد الإفطار الجماعي لأريح ظهري من عناء العمل، ولكن بعد الاستراحة والأكل "ما عاد فيّ حيل"، ما عاد عندي قوّة لأي عمل، لكني خفت من معايرتي بكوني "بنت مدينة"، فقمت مع الجميع وطلبت أن أشارك في قطف حبات الزيتون مباشرة من أغصان الشجر القريبة للأرض (كوني لا أمتاز بطول يمكّنني من الوصول للأغصان الأبعد) ولكن بعد ساعة، شعرت بوجع لا يحتمل في عضلات ذراعي، وما صدّقت متى يأتي "وقت الغدا" لأرتاح، ولكن هيهات!!
كان علي، بصفتي امرأة، أن أساعد في تحضير وتقديم الأكل للرجال، الذين يقومون بالأعمال الأصعب، من تسلّق السلم أو الشجر العالي، وهزّ أغصان الشجر ونقل الشوالات المليانة للسيارات..
باختصار، وبلا طولة سيرة، حين حلّ المساء رأيتني أردّد بيني وبين حالي: قديش أنا محظوظة لأني بنت مدينة، وأني أعيش رومانسية موسم قطف الزيتون من بعيد لبعيد، وأستمتع بما يجود عليّ به الأصدقاء وما أشتريه من زيت وزيتون.
واليوم، مع بداية الصيف عادت لي بعض الرومانسية، وفكرت أن أطلب من صديقة، لأهلها أرض في مرج البطوف شمال فلسطين، يشوون القمح ليصنعوا الفريكة، لكني تذكرت موسم الزيتون وما حصل لي فيه، وتراجعت سريعاً عن أفكاري، وقرّرت أن أذهب مع صديقتي لنشتري "كم كيلو فريكة وبرغل" من فلاحي سهل البطوف، ومن أهلها تحديداً.
إقرأ أيضاً: حكواتي: حكايتي مع القدس