لم توفّر إسرائيل في حصارها شيئاً: قطعت الماء والكهرباء والخبز والوقود. بعض البيروتيين هاجروا إلى الجبال، وبعضهم اختار السفر. وحدهم الفلسطينيون الذين افترشوا أرض مخيم صبرا وشاتيلا وبيوته كانوا يعانون الأمرّين.
التهمة الوحيدة يومها هي أن تكون فلسطينياً. يعني ذلك أنّك "مخرّب"، بحسب عبارة جنود الاحتلال الذين كانوا ينعتون الفلسطيني بـ"المخرّب" وليس بجنسيته أو بصفته العسكرية أو المدنية أو باسمه. "المخرّبون" العُزّل الذين لم يحالفهم الحظّ بالخروج من مخيّم الشتات في صبرا وشاتيلا، المدمّر، قضّوا يومها بسكّين "شارون"، وأصبحوا أبطالاً وضحايا "مجزرة صبرا وشاتيلا".
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة في ظهيرة ذلك اليوم، في 16 سبتمبر/أيلول عام 1982. بيروت مدينة يظلّلها الدخان المتصاعد في كلّ مكان. أذكر جيّداً كيف كانت عناوين الصحف اليومية، التي يشتريها جدّي بشكل يومي، تنذر بأنّ الآتي أعظم. و"ليس أعظم من أن نموت"، تُردد والدتي، نحن الذين نسكن على بعد 10 دقائق من منطقة صبرا وشاتيلا.
كانت أمي طيّبة إلى أقصى الحدود، لكنّها شجاعة جداً أيضاً. كانت آخر من يصل إلى الملجأ، وأوّل من يغادره بعد كلّ جولة قصف خلال الحرب الإهلية اللبنانية.
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا استنفرت أمي كل طاقاتها وأعلنت عن خطّة خاصّة لدرء الخطر عن أولادها. كانت تهدّىء من روع الجميع. لم تشعر بالخوف لحظة. تُردد دوماُ أنّ "الإنسان المؤمن لا يخاف. لكنّني سأحاول الدفاع عن الأطفال بكلّ ما أؤتيت من قوّة".
ووقعت هذه الحادثة بعد أيّام قليلة من المجزرة لتؤكّد حدس أمي:
كنّا مجموعة من الأطفال، لم يتجاوز واحدنا تسع سنوات، نلعب أمام المنزل. لحظات وعلا صراخ من بعيد، فسادت حالة من الهرج والمرج واجتاحت منطقة كورنيش المزرعة – بربور وصولاً إلى برج أبي حيدر.
نظرت جنوباً فرأيت جحافل من النساء والأطفال والشيوخ يحملون أولادهم وحاجاتهم من طناجر، وأحذية، وبطانيات، ويتّجهون إلينا. لم أفهم كثيراً ما الذي يجري. صرخت أمي وطلبت منّا ارتداء ثيابنا والانتظار، كما لو أنّها قائد كتيبة عسكرية. ارتدت هي ثوبها الطويل، واستفسرت عن سبب ما يجري في الخارج. علمت أنّ القوات الإسرائيلية هاجمت المخيّمات الفلسطينية مرّة ثانية، وأنّ الدورعلينا، نحن اللبنانيين، هذه المرّة.
لم تَخَف أمي لكنّها شاهدت اصفرار الوجوه التي أحاطت بها في تلك اللحظة، فطلبت من جدّي ارتداء ثيابه، وكذلك من جدّتي. تمتمت بعض الكلمات التي فهمتُ منها أنّها ستقف هي والنسوة، أي خالاتي وجاراتها بداية، بوجه سكاكين قوّات القتل، وأنّها تريد أن تدافع عن أبنائها بداية.
كلمة واحدة لا تزال عالقة في ذهني حتّى اليوم وهي "بيقتلونا بالأوّل. هل سيستقوون على النساء؟". وبعدها تابعت أمي: "ليفعل هؤلاء الكلاب ما يشاؤون، سندافع عن أنفسنا حتّى الرمق الأخير، وخبّأت سكّين المطبخ الكبيرة داخل جيبها، وطلبت من بعض المراهقين تحضير قناني زجاجية وتعبئتها بمادّة "الكاز" التي كنّا نستعملها في "البابور" وفي قناديل الإنارة الليلية. عرفتُ فيما بعد أنّ ذلك يُسمّى "المولوتوف" اليدويّ. كنتُ أنظر إليها وكأنّها قائد عسكري وأعجب اليوم كيف تحمل أمي كلّ هذه العاطفة، وهي مقاومة وتحمل جرأة، كأنّني لم أرِثها منها.
نصف ساعة كانت كافية لتتجمهر من حولها مجموعة من النسوة الفلسطينيات الهاربات. وقفنَ إلى جانب أمي بعدما وضعنَ حاجياتهنَّ في مدخل حديقة بيت جدّي. فدخلنا، أكثر من 30 طفلًا، إلى المنزل، وعلى الباب وقفت أمي وكتيبة من النساء ينتظرنَ.
نصف ساعة كانت كافية لمعرفة أنّ كلّ ما حصل هو شائعة مُغرِضَة. أكّد كذبها "راديو" جدّي، الترانزستور الصغير، الذي تحدّث عن أنّ شائعة كبيرة انتشرت في بيروت تقول إنّ قوات الاحتلال الإسرائيلية دخلت إلى العاصمة مجدداً للقيام بمجزرة ثانية.. خسرت إسرائيل يومها كثيراً، ولا زالت، وربحت أمي معركة الدفاع عنّا، نحن أبناءها وجيرانها.