حكواتي: العيد الرابع

04 أكتوبر 2014
أطفال سوريون وأردنيون محتفلين بالأضحى العام الفائت (getty)
+ الخط -


إنّه الفجر، فجرٌ آخر يطلّ، ولن يشبه سابقه في شيء، رغم أنّه يتكرر مثل أي شيء آخر، ويبقى رهين رمل الساعات التي لا تعرف توقفاً.

خلف ستارة غرفتي البيضاء المسدلة، التي يقع نصفها تحت الأرض، ويمكنني عبر شق طولي ضئيل رؤية ذرى شجرة التوت الضخمة، العتيقة في حوش بيت جارنا المقابل جهة الشمال، يتقدم النهار ببطء، وينشر ضوءه الخفيف على الأسطح والجدران والشوارع. الضوء يعلو، يقترب، يتسع، يكبر، ومعه ستنكمش وتزول الظلال شيئاً فشيئاً.

إنه الفجر، أمّي استيقظت قبل الجميع، على الرغم من أنها نامت متأخرة ليلة أمس، متأخرة ومنهكة بعد حملة تنظيف كبيرة شملت كل شيء، حتى بلغت جدار بيت جارنا. سبق أن أخبرتها أكثرة من مرة أن رشّ هكذا كمية كبيرة من المياه أثناء الشطف، ربما ينزع البيت من أساسه، لكنها لا تولي تحذيراتي أي قيمة، ولربما تراني كسولاً أحتج بخشيتي على البيت كي لا أقدم أية مساعدة لها. تقول لي أنت لا تهتم بنظافة حوش الدار، فحسب رأي أمي  كل شيء يجب تنظيفه وغسله، خصوصاً يوم العيد، حتى حواف الأحذية، حتى صنابير الحمام، الباب الخارجي الحديد لُيّف بالصابون، وحتى الشارع، كل الشارع جرى شطفه تماماً. لقد شطفت الشارع كاملاً. من يدري لربما ترغب أمي أن يكون الشارع مثل البيت، تماماً مثل البيت، في يوم العيد الكبير.

إنه فجر آخر، ها هي أمّي تتأكد من نظافة المطبخ من جديد، تلقي نظرة على غرفة الضيوف، إنها مرتبة، وهذا ما يطمئنها، فكل شيء في مكانه المناسب، الغرفة مستعدة لاستقبال الزوّار، والقهوة المرّة الخاصة بالعيد، مع الفناجين. تبدو أمي مستعجلة كالعادة، متلهفة، مرتبكة، أسمع صوتها منادية: "أين وضعتم سكاكر الأطفال.. سيأتون الآن، إنهم يأتون قبل الجميع". ثم تخرج لتنضم إلى جاراتها وقريباتها لزيارة القبور!

لا تبعد المقبرة كثيراً عن البلدة. وحولها حقول صغيرة تزرع بالملفوف والجزر والبندورة والخيار، وثمة أيضاً على مسافة ليست ببعيدة، حظائر عالية مسقوفة بألواح من التوتياء لتسمين الخراف وتربية الأبقار.

هناك في برودة الفجر اللطيفة يمكنك رؤية كل نساء البلدة تقريباً، أكبر تجمع نسائي على الإطلاق تراه صبيحة العيد على المقبرة، يأتين قبل قدوم الرجال. الرجال يمضون فرادى وجماعات كي يجتمعوا ويصلوا معاً صلاة العيد في الجامع الكبير، قبل ذهابهم إلى المقبرة، وعلى النساء إتمام زيارة الموتى والسلام عليهم وقراءة الفاتحة، ثم العودة سريعاً إلى البيت لتحضير الغداء. نساء بلدتنا محاربات حقاً. ينمن بعد الجميع، ويستيقظن قبلهم. من يدري لربما يكون العيد عملاً من أعمال المرأة، وهو أيضاً يوم الأطفال، يبدون أحراراً لطفاء، سعداء متنقلين من بيت إلى بيت ومن حارة إلى أخرى.    

لكننا في هذا العيد لم نشتر شيئاً، فقط قهوة مرّة للضيوف، وهم قلة بسبب الحرب والقتل، وسكاكر الاطفال التي لا يمكن لأحد أن يحرمهم منها. لا يمكننا عدم استقبال الأطفال أبداً، رغم كل ما يحدث، يبقى باب البيت الخارجي مفتوحاً منذ الصباح الباكر، وهم يأتون ضمن مجموعات صاخبة صائحين: "صباحكم خير، عيدكم مبارك، يا أوّل البيت، يا آخر البيت، فليمنح الله راعية لهذا البيت". يتنافسون في جمال ثيابهم، يتنافسون أيّهم يحصل على أكبر كمية من السكاكر.

في أول عيد بعد 15 آذار 2011 شهدنا دبابات تقصف حماه. الأطفال في الخارج يطلبون حصتهم من السكاكر، ونحن في الداخل نرى بيوت حماه تدمَّر. إحداهن كانت جالسة في شرفتها، واحدة من نساء مدينة حماه، كانت يمكن أن تكون أمي أو أختي، فما الفرق في الحقيقة، وقد قُتلت فقط لأنها كانت جالسة في الشرفة صباح ذاك العيد.

في العيد الثاني، وعقب الصلاة، تحولت زيارة المقبرة إلى تظاهرة. الجميع مضى إلى المقبرة، وهو يغنّي. كان مشهداً غريباً جداً، جميلاً ويدعو إلى البكاء في نفس الوقت. تلاصقت الأكتاف وعلت الحناجر بأناشيد الثورة, سبق ذلك تحضير كل شيء، الأعلام والرايات مع عدد هائل من بالونات ملونة بالأخضر والأحمر والأبيض والأسود.

في العيد الثالث اكتفينا بزيارة المقابر، وقل عدد الأطفال. انخفض عدد سكان البلدة إلى النصف، بعدما هجرها كثيرون خصوصاً الشباب الملاحَق، مخافة حملات اعتقالات أخذت تتكاثر، وحتى التظاهر فقد وهجه، رغم أنه لم يتوقف أبداً.      

 في العيد الرابع، كنّا كل واحد في بلد. لكن أمي هناك، سمعتها اليوم، الصوت نفسه، واللهفة نفسها: ستحضر القهوة المرّة، وتنظف غرفة الضيوف، ستسيقظ قبل الجميع، ستنادي: "أين وضعتم سكاكر الأطفال، سيأتون الآن، إنهم يأتون قبل الجميع".

المساهمون