"طائرات عسكرية أميركية تُسقط دفعة ثانية من المساعدات الإنسانية للعراقيين". ذكّرني الخبر بالجيش الأكثر إنسانية في العالم: يقصف غزّة ويستبيح دماء أطفالها، ثم يفتح مستشفياته لعلاج الجرحى! والخبر أيضاً أعادني إلى أيام الطفولة، التي يُفترض أنّها كانت من الزمن الجميل في سنوات الستينيّات، وقتها ما كان في شي اسمه حقوق الطفل، وكنّا مقموعين بشكل منهجي وأليف من قبل أي شخص يكبرنا ولو بعام.
إذا حكينا أسكتونا وإذا اشتكينا ضربونا. لكن كنّا مبسوطين لا نتذمّر، أو على الأقلّ بحكي عن حالي: كنت مبسوطة، يمكن لأن ما كان في إمكانيات أخرى واردة في حياتي. المهم لما كان في مناسبات مفرحة، خصوصاً عرس أو خطبة، كنّا نتسابق على مدّ يد المساعدة لأصحاب الفرح للتحضير للمناسبة، كي ننال بعض خيرات الفرح. وكان علينا تجميع كلّ الكراسي من عند الجيران وجيران الجيران. وكان علينا أن نترصّد في الشارع بائع مكعبات الثلج الكبيرة، كي نطلب منه تزويد أهل الفرح بمكعبات، يضعونها في براميل معدنية وبينها زجاجات "الكازوز"، المشروب الغازي الملوّن الوحيد الذي كان موجوداً حينها. وكان جزاؤنا زجاجة كازوز نتقاسمها مع باقي الأطفال.
كنّا نجلس على الأسوار المحيطة بساحة الفرح أو قرب الشبابيك المطلّة على غرفة الصالون، لنستمتع بمراقبة الحدث ولنسمع أغاني ونراقب تصرفات الكبار المضحكة في كثير من الأحيان، لنقلّدها لاحقاً. والأهم كنّا ننتظر لحظة رمي حبّات "الطوفي"، وهي السكاكر الطرية وشوكلاطة "سلفانا" المشهورة من رام الله، التي نادراً ما كانت تُرمى علينا. وفي اللحظة الحاسمة كنّا ننبطح أرضاً محاولين أن نحظى بقطعة واحدة أو أكثر من الحلويات، وغالباً ما كانت تقوم المعارك العنيفة تحت أقدام الكبار حيث كان يتم "معط الشعر" و"تخميش الوجوه" استبسالاً في ساحة المعركة.
وبالطبع، دائماً هناك بلطجي الأطفال الذي كان يأخذ منّا "خوّة" ويحصل على أكبر حصّة بدون ما يشارك في المعارك. لما حكيت لابنتي عن هذه التقاليد القديمة استغربت ورأت في الأمر إهانة إلى الأطفال. أنا والأطفال من جيلي لم نكن نرى في الأمر إلا فرصة لشويّة إثارة ومتعة.. لا أكثر ولا أقلّ.
***
ماخور مكسيم
أنزل من التلة الكرملية حيث تقع شقتنا في حيّ "واد جمال"، وأصل مباشرة إلى شطّ "تلّ السمك" التاريخيّ بآثاره الرومانية، حيث معهد الدراسات البحرية القطري. منه أمشي جنوباً إلى "شطّ العزيزية"، الذي سُمِّيَ بهذا الاسم نسبة إلى مالكه عزيز الخيّاط، الذي كان ينتمي لإحدى أغنى العائلات الفلسطينية في حيفا.
في طريقي أمرّ بـ"شطّ مكسيم"، وسُمِّيَ هكذا لأنّه قرب مطعم شرقي اسمه "مكسيم" أكْلُهُ سيئ ويأتي إليه إسرائيليون. أما لماذا سُمِّيَ المطعم بهذا الاسم فلا أعرف. فلم أفكّر يوماً أن أسأل وأستفسر، هل هو على اسم الكاتب الروسي مكسيم غوركي أم أنّه على اسم أحد مالكي المطعم، وقد يكون فلسطينياً أو إسرائيلياً.
قبل 20 عاماً، إلى هذا المكان انتقلت بائعات الهوى، من البلدة القديمة بمحاذاة الميناء، وصار اسم "مكسيم" مرادفاً للماخور. وعُرِفَ في حيفا، خصوصاً عند الشباب، بـ"ماخور مكسيم"، يزوره الرجال من مختلف الملل والطوائف بدون تمييز. وكنتَ تلقى هناك، خصوصا في ساعات المساء، رجالا من اليهود المتديّنين المتزمّتين إلى جانب شبّان فلسطينيين محرومين. في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2003، في عزّ دين الاجتياحات الإسرائيلية الوحشية على مدن الضفة وغزّة والمواجهات التي رافقتها بين المقاتلين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، خصوصاً في مخيم جنين، نفّذت الفدائية هنادي، ابنة الـ26 عاماً، الآتية من مخيم جنين، عملية انتحارية وسط مطعم مكسيم، ومات حينها 21 شخصاً بين فلسطينيين ويهود من زوّار المطعم ومن العاملين. بعد هذا التاريخ منعت الشرطة بائعات الهوى من العمل في منطقة المطعم، الذي تم ترميمه وعاد الروّاد الإسرائيليون إليه ليأكلوا حمّصاً سيئ الصنع وكباباً بطعم الكاوتشوك وليشربوا الكولا.
أما قرب "ماخور مكسيم" فقد أُقيمَ نصب تذكاري لقتلى التفجير من فلسطينيين ويهود. وأصبح جزءاً من كورنيش مرتّب معدٍّ للمشاة وراكبي الدراجات. اليوم مررتُ بشطّ مكسيم وافتقدت بائعات الهوى وحضورهنّ الطاغي على المكان. مع العلم أنّني كنت أهاب المرور إلى جانب المكان بسببهنّ، وبسبب مضايقتهنّ المستمرّة لكلّ من يمرّ، خصوصاً من النساء. لأنّنا كنّا نزعجهنّ في قضاء أعمالهنّ اليومية وكسب رزقهنّ. وتساءلت: إلى أين ذهبت بائعات الهوى يا ترى؟ وددتُ لو أنّني أعيش في مدينة ساحلية عادية، مدينة تمارَس فيها الدعارة العادية رسمياً، وليس الدعارة السياسية التي لا تُعطي أبداً مجالاً للحياة العادية.
إذا حكينا أسكتونا وإذا اشتكينا ضربونا. لكن كنّا مبسوطين لا نتذمّر، أو على الأقلّ بحكي عن حالي: كنت مبسوطة، يمكن لأن ما كان في إمكانيات أخرى واردة في حياتي. المهم لما كان في مناسبات مفرحة، خصوصاً عرس أو خطبة، كنّا نتسابق على مدّ يد المساعدة لأصحاب الفرح للتحضير للمناسبة، كي ننال بعض خيرات الفرح. وكان علينا تجميع كلّ الكراسي من عند الجيران وجيران الجيران. وكان علينا أن نترصّد في الشارع بائع مكعبات الثلج الكبيرة، كي نطلب منه تزويد أهل الفرح بمكعبات، يضعونها في براميل معدنية وبينها زجاجات "الكازوز"، المشروب الغازي الملوّن الوحيد الذي كان موجوداً حينها. وكان جزاؤنا زجاجة كازوز نتقاسمها مع باقي الأطفال.
كنّا نجلس على الأسوار المحيطة بساحة الفرح أو قرب الشبابيك المطلّة على غرفة الصالون، لنستمتع بمراقبة الحدث ولنسمع أغاني ونراقب تصرفات الكبار المضحكة في كثير من الأحيان، لنقلّدها لاحقاً. والأهم كنّا ننتظر لحظة رمي حبّات "الطوفي"، وهي السكاكر الطرية وشوكلاطة "سلفانا" المشهورة من رام الله، التي نادراً ما كانت تُرمى علينا. وفي اللحظة الحاسمة كنّا ننبطح أرضاً محاولين أن نحظى بقطعة واحدة أو أكثر من الحلويات، وغالباً ما كانت تقوم المعارك العنيفة تحت أقدام الكبار حيث كان يتم "معط الشعر" و"تخميش الوجوه" استبسالاً في ساحة المعركة.
وبالطبع، دائماً هناك بلطجي الأطفال الذي كان يأخذ منّا "خوّة" ويحصل على أكبر حصّة بدون ما يشارك في المعارك. لما حكيت لابنتي عن هذه التقاليد القديمة استغربت ورأت في الأمر إهانة إلى الأطفال. أنا والأطفال من جيلي لم نكن نرى في الأمر إلا فرصة لشويّة إثارة ومتعة.. لا أكثر ولا أقلّ.
***
ماخور مكسيم
أنزل من التلة الكرملية حيث تقع شقتنا في حيّ "واد جمال"، وأصل مباشرة إلى شطّ "تلّ السمك" التاريخيّ بآثاره الرومانية، حيث معهد الدراسات البحرية القطري. منه أمشي جنوباً إلى "شطّ العزيزية"، الذي سُمِّيَ بهذا الاسم نسبة إلى مالكه عزيز الخيّاط، الذي كان ينتمي لإحدى أغنى العائلات الفلسطينية في حيفا.
في طريقي أمرّ بـ"شطّ مكسيم"، وسُمِّيَ هكذا لأنّه قرب مطعم شرقي اسمه "مكسيم" أكْلُهُ سيئ ويأتي إليه إسرائيليون. أما لماذا سُمِّيَ المطعم بهذا الاسم فلا أعرف. فلم أفكّر يوماً أن أسأل وأستفسر، هل هو على اسم الكاتب الروسي مكسيم غوركي أم أنّه على اسم أحد مالكي المطعم، وقد يكون فلسطينياً أو إسرائيلياً.
قبل 20 عاماً، إلى هذا المكان انتقلت بائعات الهوى، من البلدة القديمة بمحاذاة الميناء، وصار اسم "مكسيم" مرادفاً للماخور. وعُرِفَ في حيفا، خصوصاً عند الشباب، بـ"ماخور مكسيم"، يزوره الرجال من مختلف الملل والطوائف بدون تمييز. وكنتَ تلقى هناك، خصوصا في ساعات المساء، رجالا من اليهود المتديّنين المتزمّتين إلى جانب شبّان فلسطينيين محرومين. في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2003، في عزّ دين الاجتياحات الإسرائيلية الوحشية على مدن الضفة وغزّة والمواجهات التي رافقتها بين المقاتلين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، خصوصاً في مخيم جنين، نفّذت الفدائية هنادي، ابنة الـ26 عاماً، الآتية من مخيم جنين، عملية انتحارية وسط مطعم مكسيم، ومات حينها 21 شخصاً بين فلسطينيين ويهود من زوّار المطعم ومن العاملين. بعد هذا التاريخ منعت الشرطة بائعات الهوى من العمل في منطقة المطعم، الذي تم ترميمه وعاد الروّاد الإسرائيليون إليه ليأكلوا حمّصاً سيئ الصنع وكباباً بطعم الكاوتشوك وليشربوا الكولا.
أما قرب "ماخور مكسيم" فقد أُقيمَ نصب تذكاري لقتلى التفجير من فلسطينيين ويهود. وأصبح جزءاً من كورنيش مرتّب معدٍّ للمشاة وراكبي الدراجات. اليوم مررتُ بشطّ مكسيم وافتقدت بائعات الهوى وحضورهنّ الطاغي على المكان. مع العلم أنّني كنت أهاب المرور إلى جانب المكان بسببهنّ، وبسبب مضايقتهنّ المستمرّة لكلّ من يمرّ، خصوصاً من النساء. لأنّنا كنّا نزعجهنّ في قضاء أعمالهنّ اليومية وكسب رزقهنّ. وتساءلت: إلى أين ذهبت بائعات الهوى يا ترى؟ وددتُ لو أنّني أعيش في مدينة ساحلية عادية، مدينة تمارَس فيها الدعارة العادية رسمياً، وليس الدعارة السياسية التي لا تُعطي أبداً مجالاً للحياة العادية.