للأماكن في بلادي وبلاد زرتها حكايات وحكايات. وفي الفترة الأخيرة اكتشفت أنّني مخلوقة تستعمل حواسها أكثر من عقلها. لذلك، فلذكرياتي روائح أصوات ونكهات كلّ مكان سكنته أو سكنني.
سأبدأ بقريتي المهجّرة وستستمرّ الرحلة بين مدن في وطني بلورتْ روحي وعشّشت في ثنايا قلبي، ومدن أخرى خارج الوطن تركت في القلب عبقًا شهيًا لا يزول.
قيسارية
تقع قريتي المهجّرة ومسقط رأس أهلي على ساحل المتوسّط جنوب حيفا وشمال يافا. وقد شُيّدت على أنقاض مدينة قيسارية التي بناها الرومان كميناء رئيسي في فترة حكمهم فلسطين.
لولا الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948 ربّما كانت قيسارية مسقط رأسي، لكن شاءت الظروف أن أولد في الناصرة بعد 10 سنوات من ذلك العدوان.
أمضيت أوّل سنوات طفولتي في الناصرة، ولاحقًا في حيفا، حيث كنّا نرزح تحت عبء الحكم العسكري الإسرائيلي الذي كان يحدّ من تحرّكاتنا. إذْ كنّا جميعاً ملزمين بإصدار تصاريح للتنقل بين المدن والقرى المختلفة في أنحاء البلاد، ما حرمنا من زيارة قيسارية. فما بالك بالعودة إليها!
ويا للعجب، كان مسموحًا لنا التجوّل في الوطن من دون تصريح، فقط "يوم استقلال" الإسرائيلين. فكان الأهل والأقارب يشدّون الرحال إلى قيسارية مثلهم مثل معظم مهجرّي الوطن.
كنّا نركب جميعاً في شاحنة كبيرة تملكها شركة حيث يعمل ابن خالتي، حاملين معنا الفراش والطعام وأدوات التنظيف. وما إن نصل قيسارية حتّى كان الكبار يهرعون لتفقّد بيوتهم المهجورة. هي التي تفقد أجزاءها عامًا بعد آخر.
ولاحقًا كنّا نقوم بتنظيف أحد البيوت ونضع فيه الفراش وتبدأ الأمهات بجمع "البقلة" و"الخبّيزة" و"العلت" و"الشومر" من حول الدار، منتظرين، بقلّة صبر، انتهاء تحضير المأكولات لنأخذ حصّتنا من طعام حُرمنا منه طوال العام.
في ذلك الوقت، كان يحيّرني الفرح الممزوج بالأسى في داخلي بسبب صمت الكبار عمّا جرى من أحداث، ربّما خجلاً من تركهم لديارهم مرغمين. وعلى الرغم من كوني طفلة، إلاّ أنّي كنت أفكّر دائماً بتناقضات مشاعر الكبار.
وبعكس صمت الكبار، كنتُ محظوظة بأبي الذي كان طوال العام يروي لي حكايات طفولته في قيساريا، ويحكي لي عن تاريخ كلّ ندبة ظاهرة ومستترة في جسده، وهي دليل على شقاوته واتّساع ملاعب طفولته. كما كان يخبرني عن جدّي وجدّتي، عن الجيران وخصوصًا البشناق القادمون من البوسنة بأزيائهم الأوروبية ونسائهم الشقراوات. والأهم من كلّ ذلك كان يجيد الحديث عن "الغرامفون" الذي كانت تصدح منه أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب.
حملتُ من قيسارية الحكايات الممزوجة بذكريات الطفولة والقهر، خصوصًا عندما تحوّلت قيسارية إلى محميّة تاريخية وتمّ إزالة معظم منازلها، بما فيها منزل جدّي. وبعد ذلك توجّب عليّ شراء تذكرة دخول كي أزور ما تبقّى من مبانٍ تحمل الكثير من الحكايات، وبحرًا لم يتغيّر منذ أن كان أبي يقصده لصيد السمك في وقت الاستراحة من الدرس.
لقيسارية بحر أعشقه، ولا يتغيّر أبداً، وملمس حجر بيت جدّي القديم ونكهة خبّيزة بلدية "محيسوة" المزوجة بزيت الزيتون والبصل، وصدى صوت أبي يردّد مع كلّ زيارة لنا: "خربوها للبلد، خسارة إنّكم ما شفتوها قبل ما تتهدّم بيوتها".