الوصول إلى خلاصات منطقية، نسبياً، أو متسقة مع الواقع، لا يحدث نتيجة بحثٍ جادٍ يلتزم المنهجية العلمية دائماً، إنما قد يتأتى لدارس يستهويه البعد الاجتماعي-الثقافي في قراءته ظاهرة معينة، مثلما فعل سامح المحاريق في كتابه "حكم العسكر: التكوين التاريخي والطبقي/ تجربة مصر" الصادر عن دار "البيروني" العمّانية هذا العام.
الخلاصة اللافتة تتمثل في كوْن النظام المصري الحالي ليس استمراراً لحكم العسكر، وهي حقيقة تحتاج جهداً مضنياً في مراجعة الوثائق ومقارنتها بمقابلات حية حول تغيّرات المؤسسة العسكرية المصرية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة التي أعقبت كامب ديفيد وهي دراسات مفتقدة حول جميع الجيوش العربية؛ غير أن المؤلف أشار إلى تغيرات جذرية أدّت إلى انكشاف الجيش المصري لصالح المؤسسة الأمنية، منذ حرب الخليج 1991، تحديداً، فاستبدلت معظم قياداته لتناقض رؤيتها تجاه الحرب مع السلطة السياسية لا بسبب معارضتها انخراط الجيش في التحالف الغربي لتحرير الكويت.
وعقب أحداث سبتمبر 2001، كان واضحاً الحضور الطاغي للمخابرات المصرية، بقيادة عمر سليمان، في صنع القرار السياسي وتنفيذه، مقابل تغييب كاملٍ وصَل بعدها إلى حدود انهيار صورة الجيش في أذهان المصريين، بحسب الكتاب، في محاولة لتشبيه الوضع الحالي بمرحلة صعود جديدة لـ "العسكر"، لا امتداداً لستين سنة مضت من تولّي عسكريين سدة الرئاسة، ما يصرّ عليه معارضون مصريون ويقودهم إلى استنتاجات مغلوطة، عادةً، حول بنية المؤسسة العسكرية المصرية وطبيعة دورها في المستقبل.
لا يعني أن "تأملات" المحاريق قد أفادت بشيء مهم من هذا القبيل، لكنها انطلقت من توصيف واقعي لشخصية الضابط المصري الذي قد يكون رئيساً، في هذه اللحظة، حين يقول ".. لكن السيسي وجد نفسه مضطراً للتعامل مع نتائج وتبعات اتفاقية السلام وهو الأمر الذي جعله يقترب من فكرة الموظف أكثر من المقاتل.."، أو حين شبهه بشخصية عادية بالمقاييس المصرية؛ عادية بمعنى مألوفة مثل الأخ المغترب في الكويت أو طبيب العائلة... (ص 128- ص129).
نعود مرة أخرى إلى التقاطات الكاتب، المهتم بالشأنين الاجتماعي والثقافي، المتعلّقة بالاضطرابات الاجتماعية الحادة ذات الصلة الوثيقة بالسلطة، ومنها انتحار شاب متفوّق في دراسته الجامعية في كلية الاقتصاد، ثم في حياته المهنية، لم يشفع له تميزه في الالتحاق بوظيفة في الخارجية المصرية بذريعة أنه "غير لائق اجتماعياً"، وهي حادثة، بحسب المحاريق، تذكّر برفض قبول جمال عبد الناصر في الكلية العسكرية، غير أن رجالاً وجدوا في الزمن الملكي ما أمكنهم من تحقيق العدالة والإنصاف بإدخال عبد الناصر بعد تظلمه، وهو ما اختفى في زمن مبارك.
شواهد حية ينقلها الكتاب، لا تكفي وحدها، من أجل تصدير مقولته إن "مصر تدخل مع شخصية السيسي مرحلة الخطر، المسألة ليست متعلقة به شخصياً في بعض وجوهها"، وهي تستحق جهداً معرفياً وبحثياً ضمن التأكيد على فكرة أن مصر "تدخل حقبة جديدة لا تجتر أزمنة خلت".
يقع الكتاب في خطأ منهجي منذ البداية، إذ لا نجد تعريفاً محدداً وواضحاً لمفهوم "حكْم العسكر"، ما دفعه إلى الخلط في معاينته لنشأة الجيوش وتطورها عبر التاريخ، حين قدّم مجموعة انقلابات عسكرية فاشلة أو عزل السلطة لقائد عسكري بارز باعتبارها دلالات على تعرض "طبقة العسكر" لانكسار أعقب صعودها في مرحلة معينة، ومنها حالات عزْل خالد بن الوليد وموسى بن نصير وأبو مسلم الخراساني خلال العهدين الأموي والعباسي.
يستلزم التاريخ الإسلامي دراسة أعمق لتناول موضوع "العسكر"، فجميع الأمثلة التي أوردها هي لقادة جمعوا السياسة والحرب معاً، فمعظم الصحابة الذين تولوا القيادة السياسية كانوا مقاتلين -باستثناء الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل- وظل تزعّم المرء لقبيلته أو جزء منها، مع إتقانه فنون القتال، كفيلاً بأن يجعل منه سياسياً وعسكرياً في آن، بالنظر لأن المخصصين للقتال فقط، ممن يصرف لهم مقابل ذلك، لا يتمتعون بأي حضور أو تمثيل اجتماعي منذ دولة المدينة المنورة وحتى وقت لاحق في العصر الأموي.
إعادة تعريف مصطلح العسكر يستوجب جرأة أكبر في نقد تاريخنا، لكن يمكن طرح مثالٍ واحد لمزيد من التوضيح، بالرجوع إلى كتاب الباحث الفلسطيني إلياس شوفاني بعنوان "حروب الردة"، وهو النسخة العربية من أطروحته في التاريخ، التي نال عنها شهادة الدكتوراه من جامعة برنستون عام 1968، حيث يؤشر، اعتماداً على مراجع عربية وغربية، على وجود 3000 مقاتل بحلول العام السابع للهجرة يتلقون نفقات منتظمة من قبل النبي محمد، وجلّهم من الفقراء والمهمشين الذين لا حمايات قبلية واجتماعية لهم.
منذ تلك اللحظة، ظهر عديد المقاتلين وتطلّب الإنفاق عليهم مزيداً من الغزو أو الاتفاقيات التي تضمن تسديد القبائل العربية أموالاً لقاء حمايتها، ويذهب أغلبه لصالح "العسكر"، ويمكن تفسير سلوك النخبة الحاكمة في قرارات الحرب والسلْم، منذ ذلك الحين، بناء على ضغوط العسكر وتدخلاتهم، وتبقى المدونات التي تلقي الضوء على تاريخ الجيش/ الجيوش الإسلامية نادرة، وإن تحدثت مراجع إلى تآلفها/ تنافرها القبلي والعرقي والطبقي، وهو ما لفت له المحاريق منذ انقسام المسلمين في معركة صِفّين واقتتالهم ثم لجوئهم إلى التحكيم.
التباس مفهوم "حكْم العسكر" لدى الكاتب خلق من مقدمته تنظيراً سياسياً محضاً لا يتصل بواقع الجيوش الحديثة، في يومنا هذا، كمؤسسات محترفة تحدّد وظائفها وأدوارها في الحكْم استناداً إلى القانون الذي يخضع لتحايلات عدة، على الدوام، وبذلك تبدو توصيفات المقدمة حول الجيوش العربية مجرد إنشاء لا يعوّل عليه في ظل غياب معرفة حقيقية حول واقع هذه الجيوش ومآلاتها.
ثمة قضايا كثيرة تستحق الجدال في الكتاب، وربما ظلّ السرد المليء بالحكايات والأفكار ممتعاً، بالرغم من إخضاع التاريخ لأحكام مطلقة، لا يمكن مناقشتها على هذا النحو القسري والقفز منها نحو استخلاصات وعِبر، ومنها "تمصّر" جميع القادة غير المصريين الذين حكْموا مصر، أو الحديث حول الهوية المصرية، وربما ينطبق هذا على الخاتمة التي لم يستطع أن يحدد المحاريق ماذا يريده من الجيش المصري، وبقية الجيوش العربية، من أجل عدم "التزلج على الفراغ"، على حد تعبيره.