02 نوفمبر 2024
حكم الشعب في تركيا
قصد ملايين الأتراك في 81 محافظة صناديق الاقتراع، للمرة الثانية على التوالي، خلال خمسة أشهر لانتخاب ممثلين لهم في البرلمان التركي (550 نائباً)، في انتخابات تشريعية تاريخية، تنافس فيها 20 حزبا، وأقبل عليها المواطنون بكثافة، حتى بلغت نسبة المشاركة 87%، وتنافس المتنافسون بطريقة ديمقراطية في استحقاق انتخابي مميز، شهد أغلب المراقبين بنزاهته. وباحت صناديق الاقتراع بأسرارها، لتخبر بتصدر حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى بنسبة 49% من أصوات الناخبين (317 مقعداً)، يليه حزب الشعب الجمهوري بنسبة 25% (134 مقعداً)، فحزب الشعوب الديمقراطي بنسبة 12% (59 مقعداً)، فالحركة القومية بنسبة 11% (40 مقعداً). ودل المشهد الانتخابي على وعي معظم المواطنين الأتراك بأهمية الاحتكام إلى التنافس الديمقراطي السلمي، في اختيار أعضاء الهيئات السيادية في البلاد، وفي مقدمتها البرلمان، فكان الإقبال على التصويت كثيفاً، وهو ما أخبر بثقة المواطن في أجهزة الدولة، وإدراكه أن صوته لن يضيع سدى، ولن يعتريه التزوير، بل هو صوت مهم في رسم معالم المشهد السياسي في البلاد. من هنا، كان الانتخاب حالة تعبير عن الذات، ومن لحظات التفاعل بين المواطن والدولة.
وظهر من خلال النتائج أن البرلمان المقبل تعددي بامتياز، يعكس تنوع التيارات السياسية في تركيا. ويستجيب لاختلاف المواطنين وتباين توجهاتهم ومواقفهم من حكام أنقرة في سنوات خلت. وفي البرلمان الجديد تمثيل للعلمانيين وللإسلاميين والقوميين واليساريين وغيرهم، وفيه حضور لممثلين عن أعراق وديانات مختلفة، ما أسهم في تشكيل مجلس تشريعي يحظى بحاضنة شعبية واسعة. ويُنتج ذلك حالة من التوازن بين السلطة والمعارضة من ناحية، وحالة من الاستقرار السياسي الذي يرسل رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين والمستثمرين والسياح المتجهين إلى الديار التركية.
والواقع أن فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كان انتصاراً انتخابياً، جدّ قادة الحزب وأنصاره في بلوغه، فتماسك هذا الحزب وقدرته على التكيف مع الأوضاع المستجدة، وعلى تحيين خياراته السياسية، وعلى استقطاب المواطنين، والتفاعل مع مشاغلهم وأحلامهم وهمومهم، مكّنه من استعادة الغالبية المطلقة التي فقدها في انتخابات (7 يونيو/حزيران 2015) في وقت قياسي.
فقد عمد حزب العدالة والتنمية في الأشهر الخمسة الأخيرة إلى تقديم خطاب سياسي معتدل، تغلب عليه المرونة، والرغبة في تحقيق التوافق والرفاه الاقتصادي والسلام، وصعد في هذا الخصوص نجم رئيس الوزراء، داود أوغلو. وفي المقابل، تراجعت نبرة الرئيس رجب طيب أردوغان في الدعوة إلى استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي، يتيح له صلاحيات واسعة، وذلك لمّا تبين أن هذه الدعوة لا تجد لها حماسة كبيرة من أغلب الأتراك. وفي السياق نفسه، حرص الحزب على تعبئة أنصاره وتحسيسهم بأهمية المشاركة في المعترك الانتخابي، وجدّ في استمالة القوميين الأتراك واستقطابهم، بعد أن انشق عدد كبير منهم عن حزب الحركة القومية، وأقنعهم بأن مساندتهم هي السبيل إلى إقامة دولة تركية قوية. يضاف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية يمارس التنوع والتعددية في داخل هياكله، وفي داخل قوائمه الانتخابية التي تضمنت ممثلين للأكراد والعلويين والأرمن، إلى جانب العلمانيين والمسلمين السنة والجماعات الصوفية، الأمر الذي جعله حزباً جامعاً لروافد شعبية متعددة، ومنحه قاعدة جماهيرية عريضة. إلى ذلك، لم يتورّط الحزب، على مدى سنوات من توليه زمام السلطة في تركيا (2002) في قضايا فساد، أو استبداد، أو نهب للمال العام، كما لم يصادر الحريات العامة والخاصة. واتضح، في الأشهر الأخيرة، أن الحكومة التركية أمسكت بزمام المبادرة في مواجهة بؤر التوتر في المحافظات الداخلية، أو على الحدود السورية، وكثفت من ضرباتها لحزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية، لما صدر عنهما من أعمال إرهابية، استهدفت الجيش التركي، وأنذرت بتقويض السلم الاجتماعي. وكان حزم النظام الحاكم في مواجهة التهديدات الإرهابية حاسماً في تزايد شعبية حزب العدالة والتنمية، والتفاف الناس حوله شوقاً إلى الأمان والاستقرار.
كما أن ارتباك الأداء السياسي لأحزاب المعارضة وانخراطها في جوقة إدانة حزب العدالة والتنمية، واتهامه بالفشل في إدارة البلاد، من دون تقديم بدائل استراتيجية واضحة في إدارة الشأن الاقتصادي والاجتماعي، ساهم في تراجع شعبية تلك الأحزاب. وزاد إحجامها عن المشاركة في حكومة ائتلافية عقب انتخابات يونيو/حزيران عزوف الناس عن مناصرتها، لأنها ظهرت في موقع الأحزاب العدمية، العاجزة عن الوصول إلى حلول توافقية في إدارة الشأن العام، والحريصة على مزاولة المعارضة لأجل المعارضة، ولعل ذلك ما دفع كثيرين إلى ترك حزب الحركة القومية مثلاً، والالتحاق بحزب العدالة والتنمية. وعلى صعيد السياسة الخارجية، تبلور في الفترة الأخيرة حلف سعودي قطري تركي وازن في التعاطي مع الأزمة السورية، ونجحت أنقرة في توظيف ورقة اللاجئين، لإعادة طرح ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما زاد في شعبية حزب العدالة والتنمية.
بينت الانتخابات التشريعية التركية نضج التجربة الديمقراطية في تركيا، والإسهام الفعال للمواطنين في بناء دولة جمهورية ذات برلمان تعددي، وبينت قدرة حزب محافظ ذي مرجعية إسلامية على الانخراط في مسار التنافس السلمي على السلطة، وفي مسار إدارة تجربة الحكم بنجاح. ويبقى هذا النموذج، على علاّته، جديراً بالدراسة والاحتذاء في سياق عربي.
نجح حزب العدالة والتنمية في كسب الرهان الانتخابي، فهل سينجح في معالجة التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة، وأهمها استئناف مشروع السلام مع الأكراد، وتغيير الدستور، وتطوير الاقتصاد ومواجهة دفق اللاجئين، والتصدّي لمعضلة الإرهاب العابر للحدود؟
وظهر من خلال النتائج أن البرلمان المقبل تعددي بامتياز، يعكس تنوع التيارات السياسية في تركيا. ويستجيب لاختلاف المواطنين وتباين توجهاتهم ومواقفهم من حكام أنقرة في سنوات خلت. وفي البرلمان الجديد تمثيل للعلمانيين وللإسلاميين والقوميين واليساريين وغيرهم، وفيه حضور لممثلين عن أعراق وديانات مختلفة، ما أسهم في تشكيل مجلس تشريعي يحظى بحاضنة شعبية واسعة. ويُنتج ذلك حالة من التوازن بين السلطة والمعارضة من ناحية، وحالة من الاستقرار السياسي الذي يرسل رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين والمستثمرين والسياح المتجهين إلى الديار التركية.
والواقع أن فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كان انتصاراً انتخابياً، جدّ قادة الحزب وأنصاره في بلوغه، فتماسك هذا الحزب وقدرته على التكيف مع الأوضاع المستجدة، وعلى تحيين خياراته السياسية، وعلى استقطاب المواطنين، والتفاعل مع مشاغلهم وأحلامهم وهمومهم، مكّنه من استعادة الغالبية المطلقة التي فقدها في انتخابات (7 يونيو/حزيران 2015) في وقت قياسي.
فقد عمد حزب العدالة والتنمية في الأشهر الخمسة الأخيرة إلى تقديم خطاب سياسي معتدل، تغلب عليه المرونة، والرغبة في تحقيق التوافق والرفاه الاقتصادي والسلام، وصعد في هذا الخصوص نجم رئيس الوزراء، داود أوغلو. وفي المقابل، تراجعت نبرة الرئيس رجب طيب أردوغان في الدعوة إلى استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي، يتيح له صلاحيات واسعة، وذلك لمّا تبين أن هذه الدعوة لا تجد لها حماسة كبيرة من أغلب الأتراك. وفي السياق نفسه، حرص الحزب على تعبئة أنصاره وتحسيسهم بأهمية المشاركة في المعترك الانتخابي، وجدّ في استمالة القوميين الأتراك واستقطابهم، بعد أن انشق عدد كبير منهم عن حزب الحركة القومية، وأقنعهم بأن مساندتهم هي السبيل إلى إقامة دولة تركية قوية. يضاف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية يمارس التنوع والتعددية في داخل هياكله، وفي داخل قوائمه الانتخابية التي تضمنت ممثلين للأكراد والعلويين والأرمن، إلى جانب العلمانيين والمسلمين السنة والجماعات الصوفية، الأمر الذي جعله حزباً جامعاً لروافد شعبية متعددة، ومنحه قاعدة جماهيرية عريضة. إلى ذلك، لم يتورّط الحزب، على مدى سنوات من توليه زمام السلطة في تركيا (2002) في قضايا فساد، أو استبداد، أو نهب للمال العام، كما لم يصادر الحريات العامة والخاصة. واتضح، في الأشهر الأخيرة، أن الحكومة التركية أمسكت بزمام المبادرة في مواجهة بؤر التوتر في المحافظات الداخلية، أو على الحدود السورية، وكثفت من ضرباتها لحزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية، لما صدر عنهما من أعمال إرهابية، استهدفت الجيش التركي، وأنذرت بتقويض السلم الاجتماعي. وكان حزم النظام الحاكم في مواجهة التهديدات الإرهابية حاسماً في تزايد شعبية حزب العدالة والتنمية، والتفاف الناس حوله شوقاً إلى الأمان والاستقرار.
كما أن ارتباك الأداء السياسي لأحزاب المعارضة وانخراطها في جوقة إدانة حزب العدالة والتنمية، واتهامه بالفشل في إدارة البلاد، من دون تقديم بدائل استراتيجية واضحة في إدارة الشأن الاقتصادي والاجتماعي، ساهم في تراجع شعبية تلك الأحزاب. وزاد إحجامها عن المشاركة في حكومة ائتلافية عقب انتخابات يونيو/حزيران عزوف الناس عن مناصرتها، لأنها ظهرت في موقع الأحزاب العدمية، العاجزة عن الوصول إلى حلول توافقية في إدارة الشأن العام، والحريصة على مزاولة المعارضة لأجل المعارضة، ولعل ذلك ما دفع كثيرين إلى ترك حزب الحركة القومية مثلاً، والالتحاق بحزب العدالة والتنمية. وعلى صعيد السياسة الخارجية، تبلور في الفترة الأخيرة حلف سعودي قطري تركي وازن في التعاطي مع الأزمة السورية، ونجحت أنقرة في توظيف ورقة اللاجئين، لإعادة طرح ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما زاد في شعبية حزب العدالة والتنمية.
بينت الانتخابات التشريعية التركية نضج التجربة الديمقراطية في تركيا، والإسهام الفعال للمواطنين في بناء دولة جمهورية ذات برلمان تعددي، وبينت قدرة حزب محافظ ذي مرجعية إسلامية على الانخراط في مسار التنافس السلمي على السلطة، وفي مسار إدارة تجربة الحكم بنجاح. ويبقى هذا النموذج، على علاّته، جديراً بالدراسة والاحتذاء في سياق عربي.
نجح حزب العدالة والتنمية في كسب الرهان الانتخابي، فهل سينجح في معالجة التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة، وأهمها استئناف مشروع السلام مع الأكراد، وتغيير الدستور، وتطوير الاقتصاد ومواجهة دفق اللاجئين، والتصدّي لمعضلة الإرهاب العابر للحدود؟