حكمة الواد جلال!

23 يونيو 2019
+ الخط -
«وكل جــرح بساعته.. وكل جــرح بميعاد»

...

لو كنت أعلم أن حديثه سيودي بي إلى هذا البئر السحيق من الهم لما كنت استمعت إليه بتاتاً، لما نظرت نحوه أصلاً، لما عبرّته على الإطلاق، ولكنت تركته يطفح أكله من سكات، ليتركني لما أستطيع احتماله من كآبة، ولكن هل تملك الضحية الاختيار، خاصة إذا كانت ضحية الأقدار؟!

عندما جلست على القهوة لم يكن قد ظهر بعد في الصورة. كان لا بد أن أجلس قليلا لأتحايل على أحزاني بالاستمتاع بهذا الهواء الخرافي الذي يصبه البحر، وبإدامة النظر في تلك المشاكل الأنثوية المعقدة التي يطلقونها علينا في الشوارع. 

لطالما أحببت هذه القهوة، ذات الموقع الاستراتيچي، مجاورة لأفخم كافيتريات الرمل، لكن الشاي فيها بـ "نص جنيه بس"، خلقها الله للمتكحولين من أمثالي، الكراسي مرصوصة على جانبي رصيف الشارع الذي ينكب في البحر، تثقله هذه العمارات البديعة المبنية في أيام العز والمزاج، الواجهة المزخرفة والبلكونات منحوتة الأطراف تبدو لسكان الأحياء العشوائية مثلي متحفاً يونانياً مصغراً، حتى الملابس المنشورة على حبال بعض البلكونات لا تبدو مزعجة للناظرين، بالعكس تفوح منها روائح الغسيل المغسول بحب، ليس كغسيل أمي المتعجل، سامحها الله، أفسدت هذا البنطلون الأسود الحيلة، ترفض كسلاً غسله لوحده فتملؤه بالوبر، حتى أنني لم أعد أصف مستقبلي بأنه أسود كالح، مثل لون هذا البنطلون الذي صار «أسود فاتح».. أرهقتني رطرطة الأفكار، فأسندت قدمي إلى عجلة هذه المرسيدس التي ساقها الله إليَّ لتركن بجواري، لماذا لم أحلم يوماً بامتلاك سيارة فخمة مثل هذه، مع أني أحلم بما هو أصعب منالا منها؟! والنبي تتلهي أيها الدماغ الخرب، وخليك في الخيبة اللي انت فيها.

آه.. كثير هذا على القلب، فقر وفَلَس - حاكم هناك فقر لا فَلَس فيه - وأم تقهرني بطيبتها التي تنقلب غباءً في أحيان كثيرة، ومحبوبة تعد بالاتصال والوصل فلا تصل ولا تتصل، وعائلة محطمة بفعل تصاريف الزمن، ثم هذا الهيجان الذي لا يبدو أن هناك سبيلا لصرفه، من يحمل عني كل هذا أو حتى شيئا منه؟

حضوره اقتحم همي.. لفت انتباهي إلى صديقيه العجوزين اللذين كانا جالسين إلى جواري منذ زمن دون أن يجتذبا اهتمامي.. كانا ينتظرانه.. تبادلا معه سلام العواجيز.. سلام مليء بالمودة دون صخب أو مبالغة.. نادياه بـ«الواد جلال» رغم اشتعال رأسه شيباً. أحدهما أصلع، ضعيف السمع، طلعته بديعة لم يلخبطها قلق الليالي، والثاني ذو صلعة لامعة زانت وجهه وزادته مهابة ووقارا ومنحته درجة وكيل وزارة سيادية. كان الأخير يتحدث بصوت عالٍ ليسمع رفيقهما الثالث الذي كان يستعيد بعض الكلمات مكتفيا بتعليق ثابت على كل ما يسمع: «ناس وسخة وأيام وسخة».. تلاحقت العبارات الساخرة من الأصلع:

- مكتوبة لك يا عم.. كسبت اليانصيب، 2800 جنيه مرة واحدة ومن أول مرة.. مش كفاية شهادات الاستثمار اللي كسبتها قبل كده.. حظ "معرّصين".

اكتفى «الواد جلال» بابتسامة طناش.. فتح لفة جرايد غارقة بالزيت؛ فهفت رائحة سمك مقلي.. عاد الأصلع للسخرية:

- أيوه يا عم.. زفّر لنا القعدة.. جتك القرف.. إحنا هنقوم نصلي العصر.. وبعدين نرجع لك عشان نشوف اللي ورانا.

سأله ضعيف السمع:

- ركبت قطر كام يا «جلال»؟

أجاب وهو مستلذ بتقسيم أرغفة العيش إلى أنصاص وأرباع استعدادا لبدء الأكل:

- ركبت من طنطا قطر واحدة إلا تِلْتْ.. حلو قوي.. بَاسْتَنَّاه من 12 ونص، بس إيه رأيك.. ميعاد حلو.

- كده.. و الله!

- أول ما نزلت من القطر رحت مع واحد زميلي في «قاسم أمين» الثانوية اسمه حامد الششتاوي.. طلعنا على بتاع السمك اللي في محطة مصر.. قلت له: إيه رأيك في افتتاحية المنهج دي؟!.. قال لي: يا خبرك اسود سمك دلوقتي!.. وقام سايبني.. رحت جايب الربع ده باتنين جنيه ونص.. وجبت تلات أرغفة ومخلل.. أصل بصراحة نفسي رايحة للسمك.. وبعدين الكيلو بعشرة.. قمت جبت ربع وجبت ورقة يا نصيب.

قال له عالي الصوت وهو يراقب بدء دخوله في الأكل ويتجاهل ذكر ورقة اليانصيب:

- ده احنا جبنا بتلاتة جنيه فلافل سخنة وكلناها سوا.

لم ينتظر الانتهاء من المضغ.. مشيحا بيده:

- يا أخي بلا فلافل بلا هم.. أنا النهارده مُسْمِك..

سأله ضعيف السمع فجأة سؤالا مصيريا:

- وهتغسل إيدك فين يا ابني؟

أجابه دون اكتراث: في حمام الجامع طبعا.

نهض عالي الصوت الذي لم أعرف اسمه واستدار ليجذب صديقه من يده، ثم قال عالي الصوت بصوت عال:

- طيب احنا هنروح نصلي ونجيلك، بس اوعى تمشي.

- لا.. أمشي ازاي؟

- أصل احنا قاعدين هنا من 12 ونص.. وانت لسه يا دوبك بتتغدى.

بدت لي جملة بايخة زاد بواختها تعليق فجائي من الأصلع:

- ده أنا شربت عصير مرتين.

هز المُسمك رأسه غير مكترث وهو يلتهم السمك والبتنجان المخلل في نشوة حقيقية.. انصرفا مستندين على بعضهما.. منحدرين مع الشارع باتجاه البحر.. ثم انحرفا يميناً باتجاه جامع القائد إبراهيم وهو يتبعهما بنظرات مبتسمة..

أمعنت النظر فيه سريعا قبل أن يستدير رأسه مجددا باتجاهي فلا أتمكن من تأمله براحتي..

كان شعره كثيفا شديد البياض. ذقنه مهملة ونصف شعيراتها أبيض.. يلبس نضارة عتيقة تخالها ملصقة ببلاستر.. و«تي شيرت» رخيص أزرق يكشف عن لحم صدره الأملس ورقبته المكرمشة دونما تجاعيد.. وبنطاله الأزرق يبدو مكوياً بما لا يتناسق مع النصف الأعلى ولا الجزء الأسفل الذي تحتله جزمة مرهقة تشكو من طول الخدمة وظلم الشوارع.

أدار وجهه رامياً عينيه في عيني.. ارتبكت وأشحت بوجهي عنه.. ناداني بمودة:

- اتفضل يا افندي.

أربكني لطف النداء مع أني ألِفت لقب الأفندي إسكندراني النكهة كلما عدت إلى الإسكندرية.. فملامحي التي أظنها محترمة تتسق معها أكثر ألقاب (باشمهندس - باشا - ريس - شقيق) التي أسمعها في القاهرة دوماً.

- ربنا يخليك يا بيه.. ألف هنا وشفا.

قسم "جزلة" سمك إلى قسمين.. ووضعها على قطعة عيش.. ومدها إليّ قائلا:

- مش بنعزم عزومة مراكبية والله.

- صادق والله يا باشا.

نظر إليّ متفحصًا:

- الأخ من مصر؟

قلت له مسرعًا:

- لا.. إسكندراني.. بس قاعد في مصر.

دون أن أسأله انطلق متحدثا على سجيته وهو يأكل.. كأنه كان يبحث عن متحدث يشاركه ونس الأكل:

- ما لكش حق، حد يسيب إسكندرية برضه.. صدقني ربنا هيحاسبك.. لا وتسيبها وتروح فين.. مصر.. كان الله في عونك.. أنا من طنطا.. بس ما احبش آكل السمك الجزل إلا في المطعم بتاع محطة مصر.. أقول لك حاجة وما تصدقنيش.. أنا عامل اشتراك في خط القطر بتاع القاهرة إسكندرية.. عارف ليه؟! عشان الأكل.. لما يهفّني الشوق أنزل إسكندرية لصحابي دول اللي انت شفتهم.. وآكل السمك الجِزَل والمكرونة في محطة مصر.

قاطعته مستوضحًا:

- أكيد بتاكل مكرونة عند «الصاروخ»؟!

هز رأسه مسفها ملاحظتي: لا.. دوكهه بتاع مكرونة.. أنا قصدي السمك المكرونة.. الفراخ البلدي بقى عمري ما آكلها غير في مطعم في مصر..عارف فين؟ .. في التوفيقية.. أما الجمبري فتستغرب لما أقول لك إني ما اكلوش غير في بنها.. عند واحد بتاع سمك جنب المحطة.. لا وإيه وعنده كمان سمك المكرونة المستورد من البحر الأحمر.. بس برخيص.. في طنطا بقى ما اكلش غير في المسمط عشان أرخص.. إنما باقي الأكل هناك مش ولا بد.

اندمجت في حديثه مكتفياً بدور المستمع..

اقتربت نحونا قطة صغيرة مبهدلة الشكل.. أخذت تدور حول الترابيزة متشممة للمكان.. رمى لها قطعة صغيرة من عظم السمك.. تشممتها بكبرياء ثم ابتعدت لتقف أمام السيارة الراكنة جوارنا وبدأت في فرد عضلاتها.

ابتسم مشيرا إلى مطعم «السيد البدوي» المجاور لنا قائلا:

- بالك القطة دي قنوعة؛ عشان تلاقيها واكلة جمبري في المطعم ده.. الحمد لله.. لو ما كانتش جنب مطعم كانت نطت لي هنا.. بنت الحرام مش عاجبها الشوك.. مع إن الشوك بتاع النوعية دي عامل زي قراقيش اللحمة.. مرة جبت منه لواحد صاحبي.. أكل الشوك بالسمك!

استدار ناظرا إلى المطعم المجاور لنا ثم ضحك ضحكة عميقة:

- عارف أكلة السمك دي تطلع لها بكام في المطعم ده.. بييجي حاجه وأربعين جنيه.. آديني كلتها باتنين جنيه ونص.. وفي نفس المكان.. بالعكس دا أنا قاعد في الطراوة.. على فكرة القهوة دي كويسة قوي.. مش الشاي لسه فيها بنص جنيه؟

هززت رأسي مجيبا عن سؤاله بنعم.. فنادى على الجرسون بصوت عال.. «كوباية مَيه يا ريس».

نظر إليه الجرسون ثم اتجه نحو الرصيف المقابل ليلبي طلبات زبائن آخرين.. ابتسم «جلال» وقال لي بمرح:

- الجرسون ابن الذين.. خايف يجيب لي ميه أحسن الكباية تتزفر.. بس كتر خيره.. على الأقل ما جاش يتخانق عشان قلبتها لهم مطعم.. بس لعلمك أنا باحافظ على المكان اللي باقعد فيه.. أي أكل يِفضل باحطه في قلب الزبالة.

قلت له: لا.. دول ناس ولاد حلال.. هيجيب لك ميه أكيد.. تلاقيه نسي.

رد عليّ مبتسما: لا هو مش عاوز.. ما هو شافني وقال: حاضر.. وراح داخل.. ما عادش فيه حد ابن حلال غيري.

ثم مستدركا: وغير حضرتك فيما يبدو كده.

أطل الجرسون من باب القهوة متجها نحو الرصيف الذي نجلس عليه حاملا كوبين من الماء.. شكره «جلال» كثيرا.. فطلبت لنفسي كوب عناب.. نظرت إلى كوبيْ الماء مبتسما.. هز كتفه مداريا حرجه ومغيرا الموضوع:

- على فكرة صحابي اللي كانوا قاعدين هنا دول طلعوا على المعاش.. كنا بندرس سوا في طنطا.. كنت أصغر منهم بكتير بس اتصاحبنا.. أنا فضلت في الشغل وهم طلعوا معاش.. لسه فاضل لي 12 سنة على المعاش..

صمت قليلا.. وملأ فمه بلقمة كبيرة.. كان أكله غريبا.. يجمع بين النهم والرزانة.

قال مبتسما: 

- كويس إن ربنا هادي لي القطط هنا.. إنت عارف أنا قبل ما اركب القطر رحت في طنطا لواحد بتاع فراخ كنت عايز أجيب ربع فرخة.. قال لي: ما فيش إلا نص. قلت له: إن شاالله عنك ما بعت، مع إن في مصر أعرف واحد بتاع التوفيقية اللي قلت لك عليه بينَزل لي ربع الفرخة وطبق رز وطبق خضار ونص لمونة.. كل ده بأربعة جنيه.. مش الحرامية بتوع طنطا.. بس الحمد لله.. السمك أبرك.

الأكل تبدو البركة مطروحة فيه بالفعل.. لا يبدو أنه يأكل ربع كيلو فقط مع أن الحجم يجعلك تصدق أنه ربع كيلو فعلا.. 

يبدو أن احتفاله بالأكل وانشغاله بالحكي كأنني صديق قديم له جعله شديد النهم في أكله.. هناه الله..

عاد ثانية للحكي المبتسم:

- بس عارف عايزيني أمشي وياهم زي ما هم عايزين.. ولو طاوعتهم هيخلوني أسيب الشغل واجري وراهم. عارف إحنا تعرفنا على بعض في القطر برضه.. كانوا عايشين في طنطا برضه.. بس لوحدهم، كانوا بيدرسوا ويرجعوا كل خميس على إسكندرية. أصلهم كانوا متجوزين.. 

سألته السؤال الأول منذ بدأ حديثه: إنت متجوز؟

رد بعنف استغربته: لأ.. لأ.. لأ.

السؤال فرض نفسه: ليه؟

صمت قليلا وبلع السؤال بشربة ماء واستأنف الحديث دون أن يعطيني فرصة لمزيد من المقاطعة:

- أصل ما كانش عندي شقة لغاية من كام يوم عدّوا.. لسه واخد مفتاحها الأسبوع ده.. بعد 20 سنة خدمة خدت شقة في طنطا بـ 8 آلاف جنيه مقدم وإيجار 90 جنيه.. قعدت سنين أدور على شقة رخيصة في القاهرة وإسكندرية وطنطا.. اللي خلاني آخد الشقة دي إن بينها وبين القطر 7 دقايق بس.. عشان أسافر براحتي. كان عندي ورث في بيت في القاهرة بعته بـ5 آلاف وقلت أعيش في طنطا. كسبت اليانصيب قمت شاري الشقة وكتبت عقدها.. شقة حلوة في بيت أصحابه عشريين.. ما رضتش اسكن فوق السطوح.. أصل انا عِشري واحب الناس.

قطع حديثنا قفزة مفاجئة للقطة في محاولة للصعود على مقدمة السيارة.. لم نفهم سر قفزتها إلا عندما طار من الشجرة الصغيرة المجاورة لنا عصفور صغير، عاودت القفز مجددا إثر طيرانه.. قال معلقا:

- شايف القطة يا عم مش عاجبها الشوك.. وعايزة تصطاد عصفور.. عندها طموح الفاجرة.

كان قد انتهى من أكله دون أن يترك باسم الله ما شاء الله سوى قليل من الشوك وبعضاً من فتات العيش..

بنظام طوى ورق الجرائد على بواقي أكله ووضعها في كيس بلاستيك التقطه من الأرض وأغلقه بإحكام ومسح يده في منديل محلاوي نضيف أخرجه من جيب بنطلونه.. باس يده وجها لظهر وأكمل شرب الكوب الثاني من الماء وزعق طالبا كوب شاي.. لم يبد عليه أنه مدخن..

زحف بكرسيه قليلا نحوي وواصل حديثه دون أن يبدو أنه كان قد توقف:

- إنت عارف.. أنا لازم اتجوز.. واجرب النظام ده.. هاصبغ شعري.. ولو ما لقيتش عروسة.. هاخلي اصحاب البيت يجوزوني. صمت قليلا ليعبث بأظافره في أسنانه ثم استأنف:

- على فكرة الواحد ما بيصليش بانتظام إلا لما يبقى متجوز.. وبعدين هو انا لو كنت متجوز كنت اجري ورا الأكل كده!

تملك الحزن من حديثه فاتصل همه بهمي.. وبدا كأنه عِشرة عمر قديم يشاركني خيبتي ويحكي بلسانه وجعي:

- إذا لقيت واحدة كويسة هاخدها تعيش معايا في الشقة ومش هاكل غير من إيديها.. ما فيش.. آديني عايش في الشقة لحد ما اموت.. ما انا قلت لاصحابي أنا خلاص خدت الشقة اللي هاموت فيها.

تنهد بعمق ثم قال جملة واحدة صمت بعدها مليا.. لينشغل بتقليب كوب الشاي الذي حضر للتو:

- أصلي هاعمل إيه يعني!

رشف رشفة من كوب الشاي ثم قال لي مشيرا إلى شعره دون أن يلمسه:

- عارف أنا شعري شايب من وانا عندي 30 سنة.. وبعدين من 5 سنين لما ابتديت ارتاح نفسياً ابتدا يسمرّ شويه.. ساعات أقول يا رب سوِّد لي شعري.. أصل ما عنديش طولة البال عشان اصبغه.. إنت عارف فيه ناس يقولوا لي إنت أصغر من سنك، وناس يقولوا لي العكس.. لعلمك أنا متهيأ لي شعري شاب من كتر الناس اللي شفتهم بيموتوا على السكة الحديد.. هو انا قلت لك إني ساكن قريب من شريط القطر.. لسه وانا جاي شفت واحد اتقتل.. كان بيجري ورا واحد تاني بمطواة عشان يغزه.. اتكعبل على شريط القطر والقطر خده.. اتفرم وقعد اللي كان بيجري منه يلم في اللي فاضل منه وهو بيعيط ويصرخ.

فرضت الصورة القاسية مزيدا من الكآبة والحزن على المكان.. لو كنت أعلم أن حديثه سيفضي بي إلى هذه البئر السحيقة من الهم لما استمعت إليه.. لكن ظُرف حديثه خدعني في البداية..

لم يشأ أن يرحمني إلا للحظات رشف فيها رشفة من كوبه وعاد لتعذيبي:

- إيه رأيك أجرب الجواز؟

لم ينتظر إجابتي وواصل حديثه:

- إنت عارف صاحبي اللي كان قاعد هنا.. اللي كان بيزعق ده.. إتجوز مرتين.. بس بيقول لي من يوم ما عرفته.. إوعى تتجوز.. هيتخرب بيتك.. المهم إنه بيقول إنه اتجوز مرة تالتة. مع إن عمري ما اتصلت بيه ورد علي صوت حريم.. واضح إنه مستفرد بنفسه وسايب عيلته.. إنما الأقرع اللي كان قاعد هنا ده متجوز مرة واحدة ومراته قربت تموت.. عندها الخبيث بعيد عنك..

قبل أن يرشف الرشفة الأخيرة من كوبه سرحت عيناه طويلا باتجاه البحر وهو ممسك بالكوب قريبا من يده..

لمعت عيناه وهو يلتفت نحوي وقال كمن توصل إلى قرار حاسم:

- بس انا رأيي الواحد يجرب كل حاجة.. حتى في الآخر يجرب الانتحار بقى عشان الحكاية تخلص.

انقبض قلبي، أو لعله تحطم، أو لعلي بكيت أو أوشكت أن أبكي، بينما رشف هو آخر ما بكوبه من شاي، وأنزله بقوة على الترابيزة.. ثم إنه لم ينطق بحرف ولم يلتفت نحوي.. كأنه لم يرني أصلاً.. وكأنه لم يكن قد أمضى الدقائق الماضية التي لا أعلم عددها يحدثني ضاحكا وشاكيا.. وكأني كنت جزءاً من طقوس طعامه وشربه الشاي، فلما انتهى انتهيت، وانتهت حاجته إليّ.

أمعنت النظر إليه لعله يلتفت فلم يفعل.. هممت بأن أحدثه فاختنق صوتي بحشرجة مرة.. أخذ يفرك يديه محدقاً في المجهول..

لم تجذب انتباهه نحنحاتي المتتالية ولا مدي يدي نحو كوب الماء المستقر إلى جوار كوبه الممتلئ ببقايا الشاي.

من مطلع الشارع المنحدر أطل صاحباه مستندين إلى بعضهما.. تبادلا معه الابتسامات والتعليقات التي لم أسمع أغلبها.. واصل تجاهله لي.. مع أني تمنيت أن يستدير إليّ ليسألني عن اسمي أو يعرفني بصاحبيه أو يقول لي أي شيء عله يُكفر عما ارتكبه بحقي من تعذيب.

قال عالي الصوت: إنت ليه ما بتصليش يا أخي؟!

رد بهدوء: أغسل إيدي وأصلي.

قال الأصلع ضعيف السمع: أنا عايز أركب الترام أبو دورين.

- هو آخر خطه فين؟

- قوم بينا وانا أقول لك.

- والقهوة؟

- دي بتاعتنا وناسها اصحابنا.. هنرجع لهم.

قام إليهما حاملا كيس بواقي الأكل.. أشار عالي الصوت إلى الجرسون زاعقاً: «راجعين تاني يا ابني». ودون أن يلقي حتى السلام علي أو حتى يلقي علي نظرة.. أي نظرة. ذهب «الواد جلال» المسمك شريكي في الحياة طيلة الدقائق الماضية.

انحدر الثلاثة سوياً مع الشارع منعطفين باتجاه مسجد القائد إبراهيم، وانحدر حزن كبير لعله مليء بالدماء على خدي.

(كتبت هذه القصة عام 1999 في الإسكندرية ونشرت بعنوان (جِزَل) في مجموعتي القصصية الأولى (بني بجم) التي صدرت عام 2005 ويعاد طبعها قريباً بإذن الله) 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.