حكاية سوري من العامة

16 ابريل 2015
+ الخط -

أحقاً ما زلت شاباً صغيراً على كل هذا الحزن؟ أتساءل: ترى كيف وُضعت مقاييس الزمن، وكيف لي أن أثبت اختلاف مقاييس الأعمار؟ هي 24 سنة، كانت أقل بأربع يوم تقدمت الصفوف أنادي "حرية". لا أتحدر من أسرة سياسية، ولم أكن طالباً جامعياً مهووساً بحركات التحرر ولا بالشيوعيين. لم أسمع عن أحداث حماه، ولم أصل في المدرسة إلى الصف العاشر لتظنوا أني امتنعت عن الانتساب لحزب البعث.

كل ما أذكره أن الفقر ساقني للعمل وأنا ابن 11 عاماً، أستطيع أن أستعيد بقدرة بالغة عدد قطع "البلوك" و"البلاط" التي صعدت بها كل الطوابق الجديدة في حارتنا. أستطيع كذلك تلمُّسَ مواضع الحروق التي لطالما تسبب بها حمل قضبان الحديد تحت شمس بيروت. كنت يافعاً، ووسيماً حسب ما كانت تردد أمي. على سطح البناء كنت دائم القناعة بأن تلك اللبنانية السمراء تقف في النافذة فقط لتنظر إلي، وكنت أزيد الحمل وأسرع الخطو لأجل عينيها اللتين حاولت جاهداً أن أحزر ما لونهما وخذلتني المسافة.

أقسم أني لم أقرأ كتاباً واحداً ولا حتى مقالاً واحداً عن الديمقراطية، وإن كان ورد تعريفها في كتاب التربية القومية من منهاج الصف التاسع، فأنا لم أدرس ولم أنجح. تسألون ما الذي خرج بي؟ أردت أن أتغير، فأنا لم أكن كباقي الأطفال، لم توزع أمي سكاكر "ناشد إخوان" حين كنت آتي بجلائي المدرسي، لم أرتد كافيتريات الجامعات يوماً، ولم يتسنَّ لي الجلوس أمام حاسوب، ولا حتى "playstation"، فكرت على قدري، وقلت: "الشعب يريد إسقاط النظام". في تلك اللحظة فقط كنت مثلهم جميعاً، لا بل كنت أفضل، كنت أقوى وأهم، كان صوتي أعلى، وكل الفتيات نظرن إلي، ولاحظن سواد حدقتيّ من مسافة أبعد من تلك الفاصلة بين سطح ذاك البناء في بيروت ونافذة اللبنانية السمراء.

في السجن كنت محظوظاً، والدي وأخي معي في زنزانة واحدة، كنا معاً في رحلة نزوحنا من حمص إلى جنوب غريب، بكى كل منا وحده في كل مرة فتحنا فيها الباب لاستلام حصتنا من السلل الغذائية، نحن الفقراء الذين دفعنا العوز بالشقاء لسنوات، وفضلنا المطارق والمسامير ورائحة الإسمنت المجبول على التلذذ بدلال الورق الأبيض كلما ساوره الحبر بتذوق لون جديد من الخربشة. كانت تلك وسيلتنا الأسرع لشراء الخبز، وتسديد الضرائب للأب الخالد عن كل التصحيح الذي جاء بلادنا به، بدءاً من ثمن إسفلت الشوارع، وانتهاء بضريبة جمع القمامة.

في السجن كنا نستجدي العطف حتى من الحشرات على صغر قلوبها، وكانت دموع أبينا تغسل جراحنا النازفة كلما أعادونا من جلسة تحقيق. حضنته 50 ليلة متتالية، واستعدت طفولة غابرة مع كل مرة انغرست أشعار ذقنه ببقعة من وجهي.

يوم أخلوا سبيله، حفرنا أنا وأخي قبرين في صدرينا، اقتسمنا صورته الأخيرة، وصلى كل منا الجنازة فرداً. مرت الليالي ثقيلة، كنا نتساءل مع كل استيقاظ: "كم لبثنا؟"، لا سبيل لحساب الوقت هناك، هو برزخ ربما، أو أطول من ذلك، والقيامة كعادتها "بعلم الغيب". أتى أبريل/نيسان 2013 بالفرج، وخرجنا متلهفين لرؤية قبره، كنا بحاجة لبرهان على خبر اليتم.

عدنا ثانية إلى المدينة الغريبة، عبرنا الحواجز من حمص إلى دمشق، متمسكين بأوراق إخلاء السبيل كأنها طوق نجاة، كنت أتجنب النظر في عيون الجنود وعناصر "الأمن"، في السجن كنت أنظر خلسة إلى وجوه الضباط والعناصر، وأفكر سراً بحكايات أبي عن "حرب تشرين"، وأحمد الله أن نبأ استشهاده الذي وصل إلى أمي حينها كان كاذباً، وأنه سقط شهيداً على ضفة أخرى، سقط وهو ابن 70 سنة في حرب نظام الأسد الحقيقية على الشعب السوري، لا سنة 1973 في كذبة حربه على إسرائيل وانتصاراته.

الآن، في هذا الليل اللبناني الموحش على أمثالي، أطفئ كل شيء إلا الضوء، أضع رأساً ثقيلة على الوسادة، علّ الجلبة المعتملة في داخله (داخلها) تهدأ، كل شيء يختلط في رأسي، بدءاً من الهتاف الأول، مروراً بآخر صرخة تحت التعذيب، وصولاً إلى هذه الأنفاس المتعبة لصدر لا ينفك يستحلف الذاكرة أن تعفيه لليلة واحدة من الزفير.


(سورية)

المساهمون