يجري الآن وضع اللمسات الأخيرة على ترتيبات الاحتفال بمراسم التوقيع، الثلاثاء، في البيت الأبيض، على الاعتراف المتبادل بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.
وقد أرادت الإدارة الأميركية إحاطة الحدث بهالة تحاكي حفل التوقيع على أوسلو في المكان نفسه في سبتمبر/ أيلول 1993، من حيث الأهمية والأضواء الباهرة، وحجم الحضور المشارك في الحدث ومستواه. لكن الفارق بالوزن بين المناسبتين، وغياب الرمز الفلسطيني يحولان دون ذلك.
كما يزيد من ضمور الحدث أنّ أميركا منهمكة في الوقت الراهن بكورونا وحرائق الساحل الغربي والإعصار الجنوبي، فضلاً عن الانتخابات الرئاسية التي تبقّى لها 50 يوماً فقط.
يحول كل ما سبق دون المقارنة، مما يجعل من التوقيع قضية عابرة نسبياً. ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب تركيز البيت الأبيض وأنصاره من المحافظين في الإعلام وغيره من المنابر، على وضع التوقيع في خانة "الاختراق" التاريخي الذي "لا ينكره إلا الكارهون للرئيس".
ومع أن ثمّة إقراراً واسعاً في الساحة الأميركية بأنّ ما جرى تطور لا يستهان به، من حيث إنه كسرٌ مدوِّ للمألوف والممنوع؛ لكنه "منفوخ" ومبالغ فيه أكثر من حجمه، ولا سيما لجهة ادعاء الإدارة أنها تحتكر إنجاز هذا "الاختراق" من الألف إلى الياء. وهذا زعم مجادل فيه.
تعتقد دوائر أميركية أن الدور الذي لعبته إدارة ترامب في اتفاقات التطبيع، لا يعدو كونه رفع حرارة النار تحت طبخة كانت تعد منذ سنوات
إذ تعتقد دوائر أميركية متابعة ومطلعة، أنّ الدور الذي لعبته إدارة الرئيس دونالد ترامب لا يعدو كونه رفع درجة حرارة النار تحت الطبخة لحساباتها الانتخابية، لكن الطباخ الذي أعدّ الوجبة أصلاً كان من المنطقة.
ويذكّر هؤلاء بأنّ العملية خاصة بين الإمارات وإسرائيل بدأ التحضير لها "منذ سنوات"، خطوة خطوة على طريق التقارب لبناء الجسور وفتح الخطوط بينهما. ويتبدّى ذلك بوضوح في تحركات السفير الإماراتي يوسف العتيبة في واشنطن، وشبكة العلاقات التي نسجها، والمواقف التي كان يتخذها، والتي انتهت عشية الاعتراف، إلى مقالته في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.
وللتوجه الإماراتي أكثر من تفسير أو تبرير متداول في واشنطن. أبرز تلك التفسيرات أنّ ثمة اعتقاداً يتكون منذ فترة لدى بعض دول المنطقة خاصة الخليجية، مفاده بأنّ الاعتماد على أميركا أمنياً "غير مضمون"، كما تقول آن-ماري سلوتر، رئيسة مركز "أميركا الجديدة" للدراسات في واشنطن.
وقد جاءت عملية ضرب منشآت "أرامكو" السعودية لتعزز هذا التصور. كما يندرج في هذه الخانة، التخلي عن أكراد سورية، مراعاة للموقف التركي. حسب هذا التعليل، ساعدت هذه التطورات في تحفيز "الاهتمامات الجيوسياسية في الإقليم، باتجاه بناء تحالف من دول الجوار لمواجهة إيران والقوى الأصولية ومرحلة ما بعد ضمور النفط كسلعة إستراتيجية".
من التفسيرات المتداولة أيضاً أنّ الوسيط الأميركي في عملية السلام "لم يتمتع مرة بصفات الوساطة، حيث كان دائماً ولا يزال منحازاً إلى إسرائيل". وبالتالي تنامى لدى المطبّعين شعور بأنّ عملية التفاوض في ضوء المعادلة على الأرض كانت وستبقى محكومة بالفشل. وعليه، كان لا بد من العثور على مخرج اعتقدت عواصم في المنطقة أنّ "صفقة القرن" جاءت لتوفره، وبالتالي لتقدّم الفرصة للتخلي عن ربط السلام بقيام الدولة الفلسطينية.
جاءت هذه التحليلات في إطار ترحيب أميركي واسع بقرار الاعتراف بإسرائيل. فخطوة كهذه لم يكن من المتوقع أن تلقى تحفظاً، ناهيك بالاعتراض الذي لم يصدر سوى عن قلة من المراقبين والمخضرمين من أصحاب المقاربة الموضوعية، التي أعرب أصحابها صراحة أو مداورة عن أنّ السلام في المنطقة منقوص طالما بقي الفلسطينيون خارجه. وهي الأوساط ذاتها التي سبق وتحفّظت وحذّرت من مخاطر الاندفاع في "صفقة القرن" التي زادت من وتيرة الاعتراف المجاني بإسرائيل.
لكن هذه الأصوات لا مكان لها على الساحة في الوقت الحاضر، ولا سيما أنها مزدحمة بأصوات التبرير والتلميع لاحتفال نهار الثلاثاء، ولا مكان لخطاب العقل في ظل طغيان مخاطبة الفلسطينيين بلغة أنّ الدنيا تغيرت، وأنّ عليهم اللحاق بالركب قبل فوات الأوان!