حفريات وتأمّلات فلسفية في السينما وصُورها

24 يوليو 2019
الباحث المغربي عبد العالي معزوز (فيسبوك)
+ الخط -
في الجامعات المغربية، ومؤسّسات البحث العلمي عمومًا، هناك أساتذة يمارسون سلفيتهم اللاثقافية إزاء فنون الصورة، التي تنمّ عن عجزهم المُميت، وعدم نباهة مخيّلتهم، وعطب رؤيتهم إزاء المشروع التعليمي، وعدم استيعابهم مضامين الحداثة وجوهرها، في بعدها الفلسفي. في الوقت نفسه، هناك أفراد يشتغلون بجهدٍ كبير في قراءة مضامين هذه الحداثة البصرية، محاولين نقلها إلى القارئ العربي، بسبب غموض كبير يكتنف أبحاث الصورة عربيًا، السينمائية منها خاصّة، وما يتطلبه هذا البحث الشائك من تعدّد رؤيوي، وتحصيل علمي هائل، تمتزج فيه الفلسفة بالتاريخ والأنثروبولوجيا بالأدب. 

في كتابه الأخير "فلسفة السينما: الصورة السينمائية بين الفن والفكر" ("منشورات المدارس"، الدار البيضاء)، يواصل الباحث المغربي عبد العالي معزوز حفره الدؤوب منذ أعوام في مجال الصورة، مُحقِّقًا بذلك تراكمًا معرفيًا من التميّز والتفرّد، ليس من زاوية تربوية أو تعليمية فجّة، تعرِّف الصورة ومعجمها وعوالمها، بل من وجهة نظر فلسفية تقوم على استيعاب دقيق لتاريخ الصورة وتجلياتها في الفيلموغرافيا العالمية، باستحضار أهم القضايا والنظريات الفلسفية المتعلّقة بالإخراج والتذوّق الفني والجمالي عند بعض الفلاسفة، وبسطها في مخيلة القارئ العربي، ما يجعلها معرفة متداولة لدى الباحثين على اختلاف مشاربهم البحثية.

في المقدّمة، يكتب معزوز أنّه عمل على تشكيل الصورة السينمائية، و"على محاولة إعمال الفكر في تفهّم هذا اللون من الصُوَر"، مشيرًا إلى اعتماده المقاربة الفلسفية، ومحاولته "إبراز الإمتاع الفني والتذوّق الجمالي للفيلم السينمائي، ومن ثم استلهامي المقاربة الجمالية والفنية".
لا مجال لاستعراض مضامين الكتاب، الموزّعه على 9 فصول مختلفة من تصوّرات الفكر ومنطلقات المفاهيم. لكن الخيار واقع، بشكل سريع، على قضية أساسية تمثّل جوهره، وتقوم على جعل الصورة مرتعًا للمساءلة الفكرية خارج الثنائيات والموضوعات والمباحث المألوفة، التي دأب عليها الدرس الفلسفي المعاصر. فكتاب معزور يعيد بناء هذا التصوّر الجديد للسؤال الفلسفي، واستنباته وتبلوره كممارسة فكرية داخل نمط معين من الصورة، هي الصورة السينمائية، بما تتميّز به من تحوّل وحركية مقارنة مع الصورة التشكيلية، المتّسمة بجمودها.



على هذا الأساس، انطلق الكاتب من سؤال جوهري: هل السينما تفكّر؟ ليخلص إلى أنها لا تفكر، بل إنّ "الفكر وحده يفكّر، والذهن وحده يفكّر"، وسؤال "هل السينما تفكّر" مجاز. الأصحّ هو الحديث عن الصورة السينمائية، والبحث فيما إذا كانت تُحفّز على التفكير. فالفكر لا يمكن أن يتبلور في النص الفلسفي فقط، بل يمكن أن يتأسس داخل فيلم أو لوحة أو قصيدة شعرية، كما في أفلام المخرج الروسي أندره تاركوفسكي، التي طرحت مفهومًا جديدًا للذاكرة والحنين والزمن؛ وكما في أفلام أخرى عديدة أيضًا، احتضنت مفاهيم فلسفية يصنعها الفكر الفلسفي بحسب جيل دولوز، خلافًا لعملية التفكّر، كفعل تستحثّه السينما، فهي لا تفكّر بل "تحفِّز الفكر على التفكير".

في كتابه هذا، تُشكِّل طروحات الباحث عبد العالي معزوز ضرورة ملحّة وهاجسًا معرفيًا، على البحث العلمي تبنّيه أمام هذا الطوفان البصري الهائل، الذي شهدته المنظومة المعرفية في الأعوام القليلة الماضية، ما يحتّم على الفكر العربي معاينته ومرافقته منذ جنينيّته إلى لحظات خروجه إلى القاعات السينمائية، وما يتطلّبه ذلك من تنوّع في القراءة حسب كلّ مرحلة من مراحل نشوء الفيلم، وما يفرضه هذا الأخير من معاينة ذكية دائمة، ومن فتنة جمالية وفلسفية، تقوم على فكٍّ دقيق لمستويات الصورة داخل فيلم معين، وهو أمر يتأتّى من معجم مفاهيمي وترسانة فكرية يقوم أفقهما وشكلهما الكتابي على التقاطع والتلاقي بين مختلف العلوم والمعارف، نظرًا إلى الحدود المنهجية المستفيضة، التي تقع الصورة داخل موطنها، بحسب دومينيك شاتو، وهي أحد الأمور المؤرقة، التي لم يستوعبها النقد السينمائي العربي اليوم.
المساهمون