نجح الانفصاليون، المدعومون إماراتياً، في نقل معركة النفوذ وكسر العظم مع الحكومة اليمنية، المعترف بها دولياً، إلى محافظة حضرموت، خزّان الثروة الذي بمقدوره ترجيح كفة مشاورات اتفاق الرياض لصالحهم كلياً، وإجبار السلطة الشرعية على القبول، بلا تردد، بمطالب ظلّت طيلة الأسابيع الماضية محل رفض تام. وللمرة الأولى، حشد "المجلس الانتقالي الجنوبي"، المدعوم إماراتياً، عصر السبت الماضي، عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى ساحة الحرية في مدينة المكلا عاصمة حضرموت، التي ظلّت الشرعية تراهن على أنها لن تغرد أبداً في سرب الانفصاليين. وكان الرهان على أن المشروع الحضرمي، الذي يتبناه رسمياً "مؤتمر حضرموت الجامع"، يختلف بشكل جذري عن ذلك الذي ينادي به حلفاء الإمارات.
وجاء التصعيد الجديد من "المجلس الانتقالي"، غداة تصريحات أطلقها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، أعلن فيها أن المملكة بذلت جهوداً متواصلة، منها "لقاءات مباشرة" بين الحكومة الشرعية والانفصاليين بشأن أموال البنك المركزي وصرف المرتبات، ضمن مساعي تنفيذ اتفاق الرياض. ويكشف هذا الأمر أن تلك التغريدة على "تويتر"، كانت للاستهلاك الإعلامي فقط، وأن التصلب لا يزال سيد الموقف في المشاورات التي اقتربت من إكمال شهرها الثاني. وظلّت حضرموت في منأى عن استقطابات حادة شهدتها مدن الجنوب، بين الشرعية و"المجلس الانتقالي"، إذ فضّلت المحافظة النفطية اتخاذ موقف ضبابي كان عنوانه البارز ضرورة تجنيبها أي صراعات. لكن الحشود الكبيرة التي نجح الانفصاليون في إخراجها إلى الشارع رافعة أعلاماً تشطيرية، يتخذ منها حلفاء الإمارات شعاراً لدولتهم المفترضة، قد تخلط الأوراق وتعيد حسابات الجميع.
اعتبر مصدر حكومي أن ما حصل مجرد استعراض للشارع لكي يبرهن "الانتقالي" للسعوديين بأنه الأحق بتمثيل كافة محافظات الجنوب
وفي مقابل القوة التي شعر بها "الانتقالي"، بعد خروج ما أطلق عليها "المليونية"، كانت الخيبة بادية بشكل كبير على مضمون المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي مع محافظ حضرموت فرج البحسني، الجنرال الذي عوّلت عليه الشرعية في دحر مخططات الانفصاليين. وخلت المكالمة التي أعقبت التظاهرة، ليل السبت، من النبرة الحادة التي كانت موجودة في حديث الرجلين منتصف يونيو/حزيران الماضي، عندما أعلن البحسني، حينذاك، أن حضرموت لن تقبل أي وجود خارج مؤسسات الدولة، وتوجيهات هادي حينها بـ"قطع دابر التطرف وأي أعمال خارجة عن الدولة ومؤسساتها".
وعلى الرغم من أن تصعيد الانفصاليين في حضرموت لا يزال في طور العمل السلمي، خلافاً لما تم في سقطرى، إلا أن التهديدات التي أطلقها القيادي في "الانتقالي" أحمد سعيد بن بريك، بتوسيع رقعة التصعيد والخطوات الانقلابية، وتطبيق ما يسمى بـ"الإدارة الذاتية" داخل المحافظة النفطية، لا تبعث على الطمأنينة في الشارع اليمني الذي تتلقفه الاضطرابات. واستبعد مصدر حكومي يمني، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، لجوء "المجلس الانتقالي" إلى العنف والسيطرة على مؤسسات الدولة بالقوة، كما حصل في سقطرى وعدن، لافتاً إلى أن ما حصل مجرد استعراض للشارع، لكي يبرهن للسعوديين بأنه الأحق بتمثيل كافة محافظات الجنوب، وليست هناك مكونات أخرى بحجمه كما تزعم الشرعية. وقال المصدر إن "مُكوّني حضرموت وأبين وصلا إلى الرياض للتفاوض حول الحصص الخاصة بهم من نصيب الجنوب، وأيضاً اعتصام المهرة يطمح إلى حقيبة هو الآخر. وهؤلاء جميعاً يريد المجلس الانتقالي إقصاءهم من الشراكة في الوزارات الجنوبية والاستئثار بها بمفرده".
ولا يبدو أن الغرض من تلك الحشود الضخمة هو إثبات علو كعب شعبيتهم جنوباً فقط، فالوعيد الذي أطلقه القيادي الانفصالي، أحمد سعيد بن بريك، بتنفيذ "الإدارة الذاتية" على أرض الواقع خلال الأيام المقبلة، سواء أكانت بغياب الحكومة الشرعية، أو بحضور الحكومة المقبلة المأمولة من اتفاق الرياض، يحمل طموحات أكبر من ذلك. وأسالت ثروات حضرموت لُعاب "الانتقالي" أكثر من أي محافظة جنوبية أخرى. وفي كلمته للحشود، لم يُخف القيادي الانفصالي أحمد بن بريك المطامع في تلك الثروات التي ما زالت تتحكم فيها الحكومة الشرعية. وقال إنّ المحافظة تنتج ما يوازي 120 مليون دولار شهرياً، وتُحرم من الكهرباء والماء، وإن "الإدارة الذاتية جاءت لاستثمار تلك الموارد التي تصرفها الحكومة اليمنية وأذرعها في المحافظات على الفساد والمفسدين" على حد تعبيره.
أسالت ثروات حضرموت لُعاب "الانتقالي" أكثر من أي محافظة جنوبية أخرى
وفي مسعى منه لقطع الثغرة التي يسعى الانفصاليون إلى التسلل منها لبسط نفوذهم بدغدغة عواطف الشارع الحضرمي، أكد هادي، أثناء مهاتفة المحافظ البحسني، ليل السبت، أن حضرموت "ستحظى بالمزيد من الاهتمام على كافة الأصعدة التنموية والخدمية، ومساعدة السلطة المحلية على تجاوز مختلف التحديات والصعاب"، لكن المخاوف تبدو أكبر على مخصصات الشرعية من تلك المحافظة. ووفقاً لمصادر "العربي الجديد"، تعتمد الشرعية بشكل كلي على إيرادات حضرموت لدفع مرتبات طواقم الحكومة والبرلمان بالدولار الأميركي وبمرتبات ضخمة، على الرغم من أنها اعتمدت خلال السنوات التي أعقبت الحرب، على 20 في المائة من إيرادات المحافظة لصالح التنمية فيها، كما هو الحال مع محافظة شبوة.
ولا يُعرف على وجه الدقة المدى الذي يطمح "الانتقالي" للوصول إليه من وراء حشود حضرموت. ورأى مراقبون أن المحافظة النفطية تتمتع بثقل ودور محوري في تشكيل رأي توجه الجنوب واليمن بشكل عام. واعتبر الباحث والمحلل السياسي اليمني مصطفى ناجي أن "المجلس الانتقالي" أراد من تلك الحشود كسر محدودية التمثيل التي فرضها على نفسه، وكون حدوده لا تتجاوز مثلث عدن ــ لحج ــ الضالع، خصوصاً بعد أن قطعت الشرعية الطريق عليه بإحكامها القبضة على شبوة. وقال الباحث اليمني، في تصريحات لـ"العربي الجديد": "من ناحية أخرى لا يختلف ما حصل في حضرموت عن خطوة سقطرى. إذ كانت أحداث سقطرى تغلب الشرعية وتقوض مطالبها وشروطها بتغيير الوضع في عدن لتنفيذ اتفاق الرياض، فتم استحداث مشكلة في الأرخبيل لتكون أداة المقايضة وتجاوز الوضع في عدن وتثبيت حالته". وأضاف أنه "تم استهلاك ورقة سقطرى، وكان لا بد في نظر المجلس الانتقالي الجنوبي، من ورقة جديدة".
ولا يستبعد مراقبون أن يكون للسعودية دور في ما يجري من تفعيل لورقة الشارع، بهدف إخضاع الشرعية وإرغامها على تقديم المزيد من التنازلات بهدف تنفيذ اتفاق الرياض، خصوصاً بعد أن كشف محافظ سقطرى رمزي محروس أن ما دار في الأرخبيل من انقلاب مكتمل، كان بضوء أخضر سعودي بهدف الضغط على الشرعية. ووفقاً لخبراء، فقد برهن البيان الصادر عن التظاهرة، بأن "الانتقالي" لا يخطط للقفز على اتفاق الرياض، بل استغلال الحشود لابتزاز السلطة الشرعية في مزيد من المطالب، وذلك عندما أكد البيان الختامي تمسّكه بتنفيذ اتفاق الرياض ودعمه المطلق لفريق المجلس المفاوض برئاسة عيدروس الزبيدي. وحاول البيان طمأنة "مؤتمر حضرموت الجامع" بأنه لا يسعى لإنهاء دوره، إذ أعلن أن "حقوق حضرموت ليست موضوعاً للمزايدة أو المناقصة، وغير قابلة للمساومة، وهي تتصدر حقوق الجنوب كله، فلا انتقاص لها ولا التفاف عليها، وما أجمعوا عليه في حضرموت فهو ما يجمع عليه المجلس الانتقالي الجنوبي".
وكان لافتاً أن الفقرة السادسة من البيان الختامي لتظاهرة حضرموت، جاءت مناقضة لما ذكره أحمد بن بريك، إذ أشارت إلى أن "الإدارة الذاتية ليست منتهى ما نريد، ولكنها خطوة نحو تنفيذ اتفاق الرياض"، في إشارة واضحة إلى أن الحشود الجماهيرية مجرد ورقة لمساومة الشرعية. ويسعى "الانتقالي" لتحريك ورقة الشارع في محافظة المهرة أيضاً. ووفقاً لمصادر "العربي الجديد"، يرتب الانفصاليون لتظاهرة تشبه تلك التي شهدتها حضرموت، السبت المقبل، في مدينة الغيظة، كنوع من استعراض الشارع، على الرغم من أن حلفاء الإمارات لا يتمتعون هناك بحاضنة شعبية كبيرة.