ليست أزمة ولاية نيويورك الأميركية، خصوصاً بعض أحياء عاصمتها التي تحمل الاسم نفسه، عائدة إلى مرض الحصبة نفسه، بل إلى الامتناع عن التلقيح لدى البعض، بسبب معلومات صحية خاطئة يتبعونها
ربما يعتقد البعض أنّ أمراضاً كالحصبة اختفت، خصوصاً في الدول الصناعية، لكنّ خبر إعلان حالة الطوارئ في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة، أصاب كثيرين، حتى من الأميركيين، بدهشة. فعلى الرغم من خطورة الحصبة، هناك لقاح آمن يساعد على الوقاية منها بشكل فعال، علماً أنّ الإصابة بالمرض قد تؤدي إلى الوفاة، والأطفال هم الأكثر عرضة للإصابة بها. وبحسب مكتب الصحة لمدينة نيويورك فقد جرى تسجيل 285 إصابة خلال الأشهر الستة الماضية فيها من بين أكثر من 400 حالة في ولاية نيويورك ككلّ.
الأسبوع الماضي، أعلن عمدة نيويورك، بيل دي بلاسيو، حالة الطوارئ في المدينة، تحديداً في بعض أحياء بروكلين، مطالباً الأشخاص غير الملقحين بأخذ اللقاح. كذلك، وجّه نداء إلى الأهالي لتلقيح أولادهم، وعلى وجه التحديد في الأحياء التي يقطنها عدد كبير من اليهود الأرثوذكس المتشددين، كما حيّ وليامزبيرغ ومناطق محيطة. وأعلنت دائرة الصحة في المدينة أنّها قد تغرّم أيّ شخص مصاب يسكن في الأحياء التي تفشى فيها المرض، في مناطق بروكلين وكوينز، بمبلغ ألف دولار، في محاولة لحث الأهالي على تلقيح أطفالهم. وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول الأخير أصدرت مدينة نيويورك أمراً يطلب من بعض المدارس منع حضور التلاميذ غير الملقحين ضد الحصبة.
في خطوة نادرة، أعلنت مقاطعة روكلاند، الواقعة شمالي مدينة نيويورك، ويصل عدد سكانها إلى نحو 300 ألف نسمة، عن منع وجود الأطفال غير الملقحين ضد الحصبة في الأماكن العامة، خوفاً من انتشار العدوى على نطاق أوسع، إذ أعلن مسبقاً عن 155 حالة إصابة بالحصبة في المقاطعة.
الحصبة من الأمراض الخطيرة التي يمكن أن تنتشر بسرعة. وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة فإنّ المرض قتل أكثر من 100 ألف شخص حول العالم في عام 2017. كذلك، فإنّ سهولة الإصابة بالحصبة، بين الأشخاص غير الملقحين، هي جزء من خطورتها، إذ تنتقل عن طريق قطرات أو رذاذ سائل من أنف أو فم شخص مصاب، عند العطس أو السعال مثلاً، لشخص آخر غير مصاب. وبحسب "المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها" فإنّ الفيروس يمكن أن يعيش في الهواء الذي تنفس أو عطس أو سعل فيه المريض لساعتين بعد مغادرة الشخص المريض بالحصبة المكان، خلال الفترة التي يمكنه نقل العدوى فيها.
لكن لماذا يفضل بعض الأهالي تعريض حياة أطفالهم وحياتهم للخطر بدلاً من تلقيحهم؟ القضية ليست قضية إهمال، كما قد يعتقد البعض، بل قضية أفكار شائعة خاطئة عن التلقيح منتشرة بشكل خاص بين مجموعات دينية مختلفة، من دون أن تقتصر عليها. وفي ما يخص نيويورك فهي منتشرة بين بعض مجموعات اليهود الأرثوذكس المتشددة والتي يعيش قسم منها في منطقة بروكلين، لكنّ تلك الأفكار الشائعة ضد اللقاح لا تقتصر عليهم بل تمتد إلى آخرين من المتدينين الذين يحظون بدعم زعماء طوائفهم، أو غير المتدينين.
الأفكار الخاطئة عن التلقيح تنشرها جهات عديدة، من بينها ما يتعارض مع الحقائق العلمية، وهو ما ينشره المتطرفون خصوصاً. توزع تلك المجموعات الكتيبات والرسائل وتستنجد ببعض رجال الدين الذين يوقعون عليها، ما يثير الريبة بين الأهالي خصوصاً المتدينين. إحدى المجموعات في الولايات المتحدة تحمل اسم "آباء وأمهات يُعلّمون ويدافعون عن صحة الأطفال" وفي واحد من المناشير التي تستخدمها ضد التلقيح، وقد وقع عليه عدد من الحاخامات، زعم بأنّ "التلقيح هو الخطر الأعظم على صحة الأطفال".
تشير الاختصاصية الاجتماعية، تارا بيرغ، التي تعمل في مدارس نيويورك العامة إلى أنّ "المعلومات العلمية حول اللقاح وأهميته متوافرة في كلّ مكان على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ تلك المجموعات المتطرفة تستغل سذاجة الناس وتصديقهم لما يوقع عليه بعض رجال الدين، فتصبح المعتقدات غير المدعّمة علمياً أقوى من تلك التي أثبتت علمياً. بالنسبة لنا كاختصاصيين اجتماعيين أو لأيّ شخص يعمل في مجال الصحة العامة، نحاول تنبيه الأهل، ونشر المعلومات الصحيحة وتدعيم ما نقوله بإحصائيات وغيرها. لكنّ بعض الأهالي يفضلون الاستماع إلى مرشدهم الديني الذي يصدقونه حتى لو كان هناك غيره من المرشدين الدينيين يؤيد التلقيح. ولأنّ بعضهم يميل إلى تصديق الفكرة فيفضل الاستعانة بحاخام يؤكد أفكاره حتى مع وجود عشرات غيره من الحاخامات المعروفين الذين يؤيدون التلقيح. القضية الأخرى أنّ كثيراً من هؤلاء الأطفال، في حالة اليهود الأرثوذكس، يدرسون في مدارس خاصة، ما يجعل وصولنا إليهم معقداً، مقارنة بالمدارس العامة التي أعمل فيها".
تشير التقارير الرسمية لدائرة الصحة في نيويورك إلى أنّ أغلبية اليهود الأرثوذكس المتشددين يلقحون أولادهم، لكن هناك حركة صغيرة ترفض ذلك لأسباب عديدة ما يعرضها ويعرض أطفالها للخطر. وتزعم الحركة أنّ اللقاحات التي تستخدم تحتوي على الحمض النووي للقردة والفئران والخنازير ومصل عظم البقر، وجميعها محرّم تناوله بحسب الشريعة اليهودية، وبذلك تحرّم اللقاح نفسه.
تشير بيرغ لـ"العربي الجديد" إلى أنّ من الخطأ الاعتقاد أنّ تلك الآراء المسبقة والخاطئة منتشرة فقط بين المتدينين بل بين العلمانيين ومجموعات مختلفة مدعومة من اللوبي المعادي للتلقيح. وتنتشر الآراء الخاطئة بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي ما يجعل محاربتها صعبة. تتابع أنّ من بين تلك الآراء أنّ اللقاح يسبب الإصابة بالتوحد وبعض الأمراض للأطفال. هذه الشكوك تزيد المخاوف عند الأهل.
وتنشط في الولايات المتحدة، وفي دول غربية أخرى، لوبيات تعارض التلقيح. وتشير بيرغ إلى أنّ من الضروري أن تقوم الحكومة بعمل أكثر تنظيماً لمحاربة تلك اللوبيات المتطرفة والتي "تغلف كذبها بصور تدعي العلمية، من قبيل عقد ندوات بحجة نقاش الجوانب المختلفة للتلقيح في حين تكون تلك الندوات عبارة عن دعاية عدائية للتلقيح". وتلفت بيرغ الانتباه إلى قضية الخوف والمعلومات الخاطئة: "كثير من الأهالي لديه أسئلة مشروعة حول التلقيح، ومن السهل أن نغرس الخوف في رأس وقلب أيّ شخص، لكن التخلص من تلك المخاوف ومحاربتها يصبح مهمة صعبة، خصوصاً عندما تعشش في الرؤوس".